ثمانية وتسعون عاماً مرّت على وعد بلفور المشؤوم، الذي كان أكثر من مجرد وعد يعطي من لا يملك حقاً، حقوقاً من نوع خطير وتاريخي على حساب شعب فلسطين صاحب الأرض ووارثها الحصري.
إسرائيل تثبت كل يوم منذ قيامها، أنها أداة مشروع استعماري، فرضته القوى الاستعمارية القديمة والجديدة، والتزمت ولا تزال تلتزم بتقويته وحمايته وتفوقه، لحماية وضمان مصالحها واستراتيجياتها في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
وحين تكتشف المنظومة الاستعمارية، أن حل ما كان يسمى المسألة اليهودية، قد ولّد مسألة فلسطينية قوامها شعب يصل تعداده اليوم إلى تعداد كل اليهود في كل أنحاء العالم، ونصفهم في إسرائيل، فإن هذه المنظومة الاستعمارية، تحاول إدامة مشروعها من خلال حل المسألة الفلسطينية عبر تسوية تعطي صاحب الحق جزءاً يسيراً من حقوقه، ولكنها لم تعد قادرة على كبح تمرد مولودها المجنون، عبر إصرارها على مواصلة الاحتلال، والتوسع وإنكار حقوق الشعب الفلسطيني. ماذا تستطيع إسرائيل أن تفعل في مواجهة شعب حي يتمسك بحقوقه، وكم يمكن أن تفيدها وتحميها، ترسانتها النووية، وما تملك من وسائل الدمار الشامل.
خلال محاضرة في تل أبيب ألقاها مؤخراً، يدلي رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (امان) هرتسي هاليفي باعترافات خطيرة، وذات دلالات بعيدة المدى.
عموماً لم يعد الفلسطينيون ينتظرون أو يراهنون على جيوش عربية تخوض حروباً سواء كان ذلك، لتحرير فلسطين، أو لرد عدوانات تتعرض لها بلاد عربية، فلقد ولّت مرحلة الحروب الكلاسيكية، ما جعل إسرائيل تعتقد أنها تعيش أفضل أيامها.
الفلسطينيون موجودون على أرضهم، صامدون، يمارسون كل أشكال ووسائل الصراع، الناعم وغير الناعم من التراث والثقافة إلى المقاطعة الاقتصادية، ومقاومة كل المشاريع الإسرائيلية الاحتلالية بكل أنواعها ومسمياتها، يتمسكون بقوة بهُويّتهم، ومستعدون كل الوقت لدفع ثمن الحرية.
فيما ورد من تشخيص دقيق، ذهب هاليفي إلى حد الاعتراف بأن المواجهات الجارية خلال هذه الهبّة، «قد سبّبت حالة من الهلع لدى الشعب الإسرائيلي لو وجدت العام 1948 لما قامت دولة إسرائيل».
يتحدث هاليفي عن حرب مختلفة عن الحروب التي خاضتها إسرائيل في أزمان سابقة ضد الجيوش العربية، ويقول: «إن أحد أهم العوامل في الأحداث الحالية، هو موضوع الوعي والمعرفة، وان هذه الحرب ليست كالحروب السابقة إذ لا شأن لمن قتل أكثر هذا الطرف أوذاك، أو إلى أين وصل التقدم وأين غرست علمك فلقد غسلنا أدمغتنا خلال الشهر الأخير.
ينظر هاليفي إلى أن المواجهات الجارية منذ أكثر من شهر على أنها حرب، وكان نتنياهو قد قال في بداياتها إن إسرائيل تواجه حرباً، لكنها حرب في الجبهة الداخلية وهي الأخطر بحسب هاليفي ففي حرب «يوم الغفران»، كان لدى إسرائيل قتيل واحد في الجبهة الداخلية، والباقي كان جنوداً».
في أحاديث الفلسطينيين عن الهبّة الشبابية يبحث البعض عن الأهداف وعن الجدوى وما يمكن تحقيقه من إنجازات، وهو أمر يستحق البحث على كل حال، ولكن ثمة تفاعلات على أرض الواقع سواء كان ذلك في المجتمع الاستيطاني أو في المجتمع الإسرائيلي هي أشدّ خطراً، وأهم من حيث تداعياتها من كل الإنجازات التي يمكن أن تأخذ شكل الملموسية.
نعلم بأن الفلسطينيين لم يقرروا خوض حرب مفتوحة على الاحتلال وان لهذه الهبّة أسبابها، وأهدافها التكتيكية التي لا يتفق عليها الكل، ولكن، حتى لو كان الأمر كذلك، فإن مرور شهر على هذه الهبّة، بما وقع خلالها، لا يكفي لتحقيق استثمارات تكتيكية، أو ان إسرائيل لم ترضخ، ومن غير المتوقع أن ترضخ أو تتراجع عن سياساتها التوسعية، وأساليبها الارهابية والعنصرية، ولذلك فإننا نفهم من رسالة الرئيس محمود عباس التي يتحدث فيها عن فرصة قد تكون أخيرة بأنها موجهة للمجتمع الدولي.
المجتمع الدولي لم يتحرك حتى الآن بالشكل والمضمون الجدي والمثمر الذي يستجيب لتطلعات القيادة الفلسطينية التي لا تزال تبحث عن إعادة تفعيل خيار المفاوضات، ولكن على أسس مختلفة عما سبق، ولأن هذا المجتمع الدولي لا يزال متحفظاً كان لا بد من أن يذهب الرئيس ومن قبله وزير الخارجية رياض المالكي إلى مقر الجنائية الدولية، لإيداع بعض الملفات الخاصة بجرائم حرب ترتكبها إسرائيل.
هذه الخطوة مهمة، لتأكيد جدية القيادة الفلسطينية إزاء تفعيل ما لديها من أسلحة قانونية وسياسية ودبلوماسية في مواجهة جبروت وتطرف آلة الحرب الاحتلالية.
وإذا كانت هذه الخطوة مهمة، فإن الأكثر أهمية هو أن تستمر الانتفاضة وبوتائر فاعلة ومؤثرة، وفي الدائرة الجغرافية، التي جعلت هاليفي ينظر بخطورة شديدة لما يسميها حرباً، وعلى اعتبار أن مثل هذه الحرب هي الأجدى بالمعنى التاريخي للرد على وعد بلفور وعلى كل المشروع الاستعماري.