أخر الأخبار
إعلان الثورة على المعونة الأمريكية
إعلان الثورة على المعونة الأمريكية



فيصل جلول

ما زلت أذكر افتتاحية شهيرة ل “واشنطن بوست” في مثل هذه الأيام من العام 1990 حول مصر وفيها عبارة قاسية: “إن بلداً يرضى بالحصول على مساعدة أمريكية سنوية بقيمة ملياري دولار، لا يحق له أن يخالف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.. بل يستدعي واجبه الاصطفاف إلى جانب أمريكا” فكان أن أقفلت مصر حسني مبارك باب الاختلاف مرة واحدة وإلى الأبد وصارت تحرص على ترتيب سياستها الخارجية حيث تكون المصالح الأمريكية.

وعلى الرغم من منهج الطاعة الذي اعتمده مبارك في كل قضايا الشرق الأوسط، فإن أصواتاً في الإدارة أو الكونغرس الأمريكي كانت تهدد بين الحين والآخر بقطع المعونة للضغط على القاهرة من أجل المزيد من الخضوع أو في سياق الخلافات الداخلية الأمريكية نفسها . معلوم هنا أن مصر بعد معاهدة كامب ديفيد كانت تتلقى (1982) مساعدة أمريكية تقدر بملياري دولار يستهلك معظمها بشراء معدات أمريكية وتأهيل عسكريين وتمويل مستشارين أمريكيين وأبحاث ودراسات جدوى وجمعيات أهلية.. الخ.

كان لابد من انتظار الثورة على مبارك حتى يطرح مصير هذه المعونة على بساط البحث وبخاصة على هامش قضية الجمعيات الأهلية الممولة من الغرب العام الماضي التي اعتقل خلالها أيضاً ناشطون أجانب، غير أن الصفحة طويت في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي جراء تسوية بين الطرفين الأمريكي والمصري، لتفتح من جديد بعد إطاحة النظام السابق وارتفاع أصوات أمريكية تطالب بقطع المعونة عن مصر لمعاقبة الحركة الشعبية التصحيحية التي وضعت حداً لحكم الإخوان المسلمين بالاتفاق مع الجيش وقائده عبدالفتاح السيسي . والسؤال الملح اليوم يتعلق بتأثير هذه المعونة في الاقتصاد المصري؟ وما أوجه المكاسب الأمريكية والمصرية منها؟ وهل يمكن الاستغناء عنها؟

نبدأ من السؤال الثاني حيث أكد مايك مولن قائد الأركان الأمريكية السابق في 16-2-2011 حرفياً “أن المعونة الأمريكية لمصر لا تقدر بثمن” وهو وإن أغفل التفاصيل فإن الفوائد من هذه المعونة هائلة ومن أبرزها: سماح مصر للطائرات الحربية الأمريكية باستخدام مجالها العسكري الجوي ساعة تشاء، وإعطاء أذونات عند الطلب لمئات البوارج الأمريكية الحربية بعبور قناة السويس، والتزام القاهرة بصرف المعونة في شراء معدات عسكرية أمريكية وبشروط أمريكية، فضلاً عن تمويل الاستشارات والمستشارين، وأن تنقل المعدات بوسائل النقل الأمريكية، وأن تساند مصر واشنطن في حربها ضد الإرهاب، وأن تسهم في رعاية المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، وأن تغير مناهج التعليم وبخاصة في الأزهر، وأن تمتنع مصر عن اتخاذ أية مواقف مضرة ب “إسرائيل”... الخ. ويفضي مجمل هذه التفاصيل وغيرها نحو سياسة خارجية مصرية شرق أوسطية محكومة بحلف استراتيجي مع واشنطن بثمن بخس.

بالمقابل تستفيد القاهرة من هذه المعونة بصورة هامشية والدليل أنها تمثل أقل من 2 في المئة من الدخل القومي المصري، ولعل أضرارها تفوق فوائدها بعشرات الأضعاف، فهي تقيد هامش المناورة في السياسة الخارجية لبلد كان قائداً للأمة العربية وصار بعدها مهمشاً لا حول له في ما يدور على حدوده المباشرة: ليبيا والسودان وغزة... ويتعرض بين الحين والآخر لإهانات وتهديدات غير مشرفة بالعقاب عبر قطع المعونة التي تقدم في وسائل الإعلام الأمريكية بوصفها “صدقة” تمنحها وشنطن لمصر وليست استثماراً خارجياً “لا يقدر بثمن” على ما يؤكد رئيس الأركان الأمريكي السابق.

الواضح أن حركة التصحيح المصرية الأخيرة قد لا تمر مرور الكرام على قضية “المعونة” الأمريكية لمصر، فالثورة لا تعني الإطاحة بحكم مع الإبقاء على وسائله الخارجية. فالثورات الناجحة في التاريخ كانت تطيح الحكومات وكل شروط ووسائل عملها. ولعل الثورة المصرية أحق من غيرها من الثورات العربية في استعادة الكرامة والاستقلال وكامل السيادة المصرية على السياسة الخارجية وبالتالي التخلص من سيف المعونة المسلط على رؤوس الثوار الجدد. لكن هل يمكن التخلي عن المعونة المذكورة، وكيف؟

الجواب المبدئي هو أن مصر عاشت طويلاً قبل المعونة الأمريكية ويمكن أن تعيش بعدها خصوصاً أنها تمثل قدراً ضئيلاً من الدخل القومي المصري كما لاحظنا أعلاه. ويستفاد من مجمل النقاشات المطروحة حول البديل وتعويض المعونة أن بوسع المصريين أن يستعيضوا عنها بالإجراءات التالية: ترشيد الإنفاق الحكومي، استرداد ضرائب الدولة المصرية المتأخرة على المكلفين، استرداد عقارات الدولة التي نهبت في عهد مبارك، فرض ضرائب بسيطة على التحويلات المالية بين المصارف وفي المعاملات الخارجية والبورصة بحيث لا يتأثر عامة الشعب، فرض ضرائب بسيطة إضافية على العقود العقارية، فرض ضرائب بسيطة إضافية على معاملات المصريين في سفارات بلادهم في الخارج، فرض دولار واحد على كل بطاقة سفر لمدة معينة، فرض دولار واحد لمدة خمس سنوات على كل تجديد للهوية أو الباسبور المصري، فرض ضرائب بنسبة أقل من 1 في المئة على الثروات الضخمة الداخلية والمقدرة بالمليارات، فرض ضرائب بسيطة على حق المرور في قناة السويس،

حرمان الولايات المتحدة من المرور السريع في قناة السويس وإخضاعها لقواعد المرور كغيرها من الدول أو أن تدفع ثمن الأفضلية.. إلخ.

قصارى القول إن هامش المناورة أمام المصريين واسع للغاية في تعويض “معونة العار” الأمريكية اقتصادياً، ولعل التعويض السياسي هو الجائزة الكبرى، ذلك أن التحرر من المعونة يعني تحطيم القيود المصرية في الشرق الأوسط، وعودة دور القاهرة الريادي إلى مجال مصر الطبيعي، ولعل الأهم من ذلك كله هو ارتفاع رأس هذا البلد عالياً من جديد.