أخر الأخبار
عدم دراية «الإفتاء» أم «وراء الأكمة..»
عدم دراية «الإفتاء» أم «وراء الأكمة..»

لم تستوقفني المواقف «الشرعية» التي استبطنتها «فتوى» الشيخ علي الحلبي، أحد مؤسسي مركز الألباني السلفي، فللرجل ملء الحق في قول ما يشاء ومتى يشاء، شأنه في ذلك شأن «سائر خلق الله» ... ما أدهشني فعلاً، هو مستوى عدم الدراية  التي تكشفت عنها مفاهيم حول «الاحتلال» و»العدوان» و»الاستيطان» والمقاومة ... وأرجح عدم الدراية الان كثيرون سيذهبون في الخيال إلى ما هو أبعد من ذلك، ويندرج عادة في إطار «نظرية المؤامرة» و»العمالة»، وسيضعونه حتماً في خانة الناطق الأشهر للجيش الإسرائيلي أفخاي أدرعي. يستحضر شيخنا الحلبي مفاهيم ، منزوعة من سياقها، لطالما جرى تطويرها في سياق جملة من «الوقائع» الفردية والجماعية في تاريخ إسلامي مغاير، ليخلص إلى تفكيك عناصر «عهد الأمان» بين المُحتل والمستوطن من جهة، والشعب الرازح تحت نير الاحتلال والعنصرية والاستيطان من جهة ثانية ... فتكون النتيجة التي تفتقت عنها عبقريته، لا فُضّ فوه، أن مقاومة المُحتل غير جائزة شرعاً، حتى وإن بسكين مطبخ؟، وأن من يقوم بفعل كهذا، يأثم لنكثه عهد الأمان، وقيامه بفعل «الغدر» المُشين. يبدو أن علوم شيخنا الجليل توقفت عند قرون مضت، بعد أن ظنّ كثيرون غيره، أن قراءة بعض المراجع والكتب الإسلامية التاريخية، تغني عن كل شيء، ولا يترتب على قارئها إجهاد النفس، في مواكبة العصر وقوانيه ولغته ومفاهيمه ... لكأن شيخنا الجليل لم يسمع باحتلال فلسطين وتشريد شعبها وطمس هويته واغتصاب أرضه وحقوقه ونسائه ومقدساته ... لكأن الرجل المجلل بغبار كتب التاريخ، لم يعد قادراً على أن يرى بوضح، أو يميز بصورة صحيحة، بين المعتدي والمعتدى عليه، بين الجلاد والضحية. لم يأته نبأ أن الاحتلال يستدعي المقاومة، فعلمه الشرعي توقف عن زمن الغزوات والفتوحات ... وأن شرائع الأرض والسماء جميعها، ومن دون استثناء، تعطي الحق للشعوب المستعمَرة، بمقاومة الاستعمار وتصفيته، اللهم إلا إذا كان شخينا الجليل لا يرى إلى ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي في الضفة والقطاع والقدس، أو أنه يرى فيه، نوعاً من ممارسة اليهود لحق متأخر بتقرير المصير، وأن العرب الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين، هم الغزاة الطامعين والتوسعيين؟ لم تأته أنباء «الشرائع الوضعية»، وهم المنغمس من الرأس حتى أخمص القدمين، في تحليل واشتقاق وصوغ «الشرائع السماوية»، التي نظرت إلى الاستيطان والتهويد و»الأسرلة» و»تغيير الوقائع على الأرض» بوصفها جرائم حرب، يعاقب عليها القانون الدولي ... كل ما شغل بال الشيخ الموغل في «القطع والانقطاع والقطيعة» مع «الأزمنة الراهنة»، هو سؤال من بدأ فعل الاعتداء في الحالة المحددة: شلومو أم محمد ... أما ماذا فعل شلومو وقومه بمحمد وقومه، قبل الواقعة المحددة، فهذا خارج «علم» الشيخ وأبعد من نطاق اهتمامه ... لا يهم أن كان شلومو المدجج بالسلاح والكراهية قد فرغ للتو من هدم منزل أو التنكيل بطفل أو حتى إطلاق النار على امرأء، المهم أنه في لحظة «استرخاء» في «استراحة قهوة»، ولا يجوز التنغيص عليه، أو مسه بحال من الأحوال ... هل هناك ضحالة في الفكر تشبه هذه الضحالة. حكاية الشيخ السلفي مع الاحتلال والمقاومة، تشبه حكاية كثير من شيوخ السلفية من حكاية «ولي الأمر» و»وجوب طاعته»، وتحريم الخروج عليه ... هذا يسعى في تأبيد الاحتلال وإدامته، بصرف النظر عن جرائمه ونهمه الذي لا يعرف الحدود، وأولئك يسعون في إدامة أنظمة الفساد والاستبداد، وتحصينها من المساءلة والمحاسبة، وكلاهما يضع نفسه، عن سبق الترصد والإصرار، في مواجهة تطلعات شعوبهم وأحلامها، ومع ذلك، لا يتردد هؤلاء في الادعاء بأنهم «خير أئمة» يسّرهم الله، لخير أمة أخرجت للناس. وأحسب أن الطامة الكبرى، سوف تحلّ بنا، إن تبين لنا فعلاً، أن لمثل هذه الأنماط من الفقهاء والشيخ، مريدين وأتباع بين أهلنا وشعبنا ... حينها، سنستدعي نظرية «القطيع» في علوم الطبيعة لتفسير الظاهرة، إذ لا تفسير لها في علوم الاجتماع والاقتصاد السياسي والسياسة ... وتحيرني كثيراً، حكاية «السلفية» هذه ... إذ في الوقت الذي كان فيه الحلبي «يفتي» بتدمير سكاكين الفلسطينيين وتنظيف مطابخهم منها، كان «سلفيٌ» آخر، ولكن من طبعة «جهادية» هذه المرة، يطلق صيحات التثمين والتقدير والتشيجع على استلال السكاكين، وما هو أكثر منها، ومن مخبئه البعيد في أفغانستان، أنه أيمن الظواهري، الذي لم تعد تُذكرنا به، سوى تسجيلاته المسموعة وغير المرئية. والشيء ذاته ينطبق على حكاية «ولي الأمر»، ففي الوقت الذي خسر فيه حزب النور السلفي مقاعده في مجلس الشعب المصري وفشل فشلاً ذريعاً في استرداد أي منها، واستعادة «ماء وجهه» المُراق على مذبح التبعية للنظام، يواصل سلفيون من نوع آخر، جهادي كذلك، حربهم المحمومة على نظام السيسي، في سيناء كما في الوادي، على الأرض وفي السماء، إن صحت رواية أن «داعش» هي من أسقط الطائرة الروسية فوق سيناء، حين أوعز لأحد أنصاره بزرع قنبلة على متنها ... ما الذي يريده هؤلاء؟... ولماذا يصرون على أخذنا إلى أقاصي العنف والتطرف والوحشية حيناً، أو إلى أسفل الدرك في الاستكانة والمهانة والاستتباع والذيلية حيناً آخر؟ ... سؤال برسم خبراء الحركات الإسلامية الذين تكاثروا في السنوات الأخيرة، ودائماً بفعل قانون العرض والطلب.