بعد الهجمات الارهابية الاخيرة على باريس تحركت بالحزن والغضب مشاعر الناس في معظم بلاد العالم إلا اولئك الذين في قلوبهم رواسب حقد دفين على اعداء نبشوا اشباحهم من بطون التاريخ دون ان يدركوا أن اولئك الاعداء ما كانوا في زمانهم سوى ادوات قهر وغصب ونهب في ايدي حكامهم من استعماريي اوروبا، او أولئك الذين في عقولهم لوثة الثأر المتخلف ممن ليس لهم اليوم ذنب سوى أنهم احفاد ابرياء لجنود تعساء لم يعلموا لماذا ماتوا غرباء خارج بلادهم وهم يقتلون أهل بلاد أخرى لا يعرفونهم وعلى الاغلب فقراء مثلهم، وكل ذلك من اجل ان يستولي قادتهم على ارض الغير وتنهب حكوماتهم ثرواتها ومن ثم تنتفخ بعض الجيوب وتمتلئ بالاموال بعض الخزائن، ويقف خلف هذا المشهد المأساوي غير الجليل تجار السلاح من كل نوع في هذا الجانب او ذاك مختبئين في الظل حتى لا تلفحهم نار الحرب التي اضرموها وهم يفركون اكفهم غبطة وبهجة بعد ما حققت لهم من ارباح.
والذين كتبوا عندنا منددين بالارهاب ثم ذرفوا بعض الدموع على ضحاياه في باريس بعد أن بكوا قليلاً في مواساة المهجرين الى اوروبا وقد اخفوا فرحاً غريبا أو أملاً شاذا بان تكون هذه الهجرة مقدمة لغزوة تاريخية جديدة تنجح فيما قصرت فيه غزوات قديمة لم تعترف قط بانها ايضا استعمارية.
راحوا يذكّرون بعضهم والآخرين بالمجازر التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر فتعالت وراءهم صيحات التأييد والتمجيد، ثم تلتها قرقعة طبول تزف مواكب الشماتة والثأر.. ولو بعد حين! كما أن الذين صرخوا عندهم في فرنسا بحناجر الكراهية لدين غيرهم بدعوى انه وراء الدمار وسفك الدماء كانوا يغمضون أعينهم غباءً او جهلاً حتى لا يروا (يمينهم) المتحفز وهو يهتبل الفرصة الذهبية، إن لم يساهم فيها كما تقول نظرية المؤامرة كي ينقض على ديمقراطيتهم واصواتهم وينتزعها منهم في اول انتخابات قادمة، ويحرمهم لو استطاع من كل ما حققوه في تاريخهم النضالي من حريات انسانية ، شخصية وفكرية ومدنية، ومرة أخرى، ومن وراء المشهد المأساوي الكبير يقف اصحاب مصانع الأسلحة وشركاؤهم وعملاؤهم (بالمعنييْن السياسي والمالي) مصفقين مهللين.
لم يحدث هذا في باريس وحدها بل حدث قبل ذلك في مدن عديدة في الغرب والشرق واكثرها في ديار العرب والمسلمين ، ولا ننسى افريقيا البائسة ، وسوف يتكرر.. ويموت الفقراء ويتعذب الابرياء ويتشرد الضعفاء ومن سخرية القدر انهم لا يعرفون عدوهم على ارض الواقع ويواصلون انحناءهم لحكوماتهم الضالعة في خداعهم وفي التموية على حقائق واسرار لا هي تكشفها ولا تسمح لأحد بأن يفضحها، والا فما معنى ان آلة الحرب والخراب، بعد ان تدمر البلاد والعباد في مكان، تذهب لأماكن اخرى لتنشب مخالبها ولتغرز انيابها في لحم ابرياء اخرين.. ثم لا أحد من عتاة المحللين يقول كل الحقيقة ، وجزء منها واضح كالشمس متمثلٌ في انفاق هائل لا تحده ميزانية ولا تضبطه دواوين المحاسبة لأنه ذاهب للمجهود الحربي، اما لقمة العيش لغالبية الناس الفقراء البؤساء فلتنتظر قبل الوصول الى حلوقهم حتى تنتهي المعركة، واما المدارس فلتغلق وتبتلع الشوارع تلاميذها تشرداً وضياعاً، واما الصحة فلا ضرورة لها فالادوية والمطاعيم رفاهية والمستشفيات ترف ، وجزء آخر من تلك الحقيقة المرة ماثلة أمام الجميع بوجود مسؤولين مرهوبي الجانب وقد أصبحوا شركاء في تجارة الحرب والدم ويقودون حكومات تدعي انها تحارب الارهاب لكنها تغض الطرف عن منابعه وربما كانت ذات يوم قد غذت تلك المنابع ولا يهمها بعد ذلك إلا أن تعبيء طائراتها الحربية بالصواريخ باهظة الثمن وفي نفس الوقت تدعي الضيق المالي عندما يطلب منها ان تقدم العون للاجئين والمهجرين أو أن تؤمّن لهم المأوى.. والجزء الاخير من الحقيقة تلك الخشية في ان تعود ذريعة حماية ارواح الناس بحرمانهم من حرياتهم على هيئة قوانين للطوارئ يتسرب في ظلامها وضبابيتها كل أمر كريه وكل فعل شنيع، والشعوب في الشرق والغرب تدفع الثمن في المرتين ! تضحي ليعيش غيرها في بحبوحة بل في سفه ويموت أبناؤها وبناتها بلا ثمن ولا جدوى لكي تنتفخ بعض الخزائن !
وبعد.. فعلى الذين يستغربون هذه الشكوك والاتهامات وهم يعرفون جديتها أن يلملموا ما تبقى عندهم من شجاعة وينطقوا بالحق والحقيقة لأن الاسئلة على كل لسان ويضج بها كل وجدان ويحمل همَّ الاجابة عليها كل انسان.