أخر الأخبار
الإرهاب يدمرنا قبل الآخرين
الإرهاب يدمرنا قبل الآخرين

ارهاب "القاعدة" في الحادي عشر من ايلول سنة 2001 لم يدمر الولايات المتحدة، ومثله ارهابها في مدريد ولندن في السنوات التي تلت، وكذا ارهاب داعش الاخير لن يدمر فرنسا، كما لم يدمر اسقاط طائرة سيناء المنكوبة روسيا نفسها. تأذت تلك الدول كلها بلا شك، واسقط الارهاب ضحايا ابرياء من دون وجه حق، واستحق كل النعوت التي انتزعها عن جدارة، بكونه اجرامي ووحشي ورخيص. كل الإرهاب الذي توجه الى بلدان غربية بمسوغات الانتقام او الرد بالمثل او ما شاء له من مسوغات، لم يصل لدرجة احداث خدش في بنية القوة العسكرية والاجمالية للغرب، لكنه "تألق" في تدمير الشرق. "عبقرية" ذلك الارهاب الخالي من العقل كان توفير المسوغ لقوى سياسية ومشاريع امريكية متطرفة لإطلاق وحوش الحروب في المنطقة والعالم، فكانت افغانستان ثم العراق، التي تناسلت من حربها كل الكوارث التي نعيشها الان. الإرهاب الإسلاموي الغبي الذي انطلق (نحو ارض العدو البعيد) في نيويورك وعواصم العالم الغربي بدا كمراهق ارعن امتلك مسدساً فجأة، وصار يطلق النار في كل الاتجاهات، ومعها اطلق وحوش الحروب علينا. سقطت العراق بسبب ارهاب نيويورك ثم دخلت في ايلولة التفكك التي نشهد، ومعه انفتحت امدية الفراغات السياسية والجغرافية والعسكرية مُستدعية القاعديين والزرقاويين ومتعصبي السنة، ليتحالفوا مع نظرائهم من متعصبي الشيعة، وليتنافس الطرفان في دفع العراق الى وحل الطائفية الدموية التي لا يعرف احد متى يبرأ من نزيفها.
الارهاب الاسلاموي القاعدي ثم الداعشي دمر سورية ايضا وانهى ثورتها السلمية التي كان العالم كله يؤيدها ويصطف مع مطالبها في الحرية والكرامة. وهو ذاته كان قد تمدد الى اليمن ليتنافس مع متطرفي الحركة الحوثية في تدمير البلد، وإعاقة خروجها من مسار الاستبداد السياسي الى مسار الانتقال السلمي الربيعي، على رافعة ثورة شبابه المبهرة. وكذا انتشرت رقعة السرطان وتسلل ارهابها الى ثورة ليبيا على القذافي فأحبطها من الداخل فأخاف الليبيين ومن يجاورهم من مآلات جغرافية ترتع فيها جماعات داعش، لتذبح المارين على شاطىء المتوسط تبعا لدينهم، وتبعاً لولائهم لها او غيابه. في مستوى تدمير اقل وخلال العشرية التي نعيشها وما سبقها، ما من بلد عربي (وكثير من بلاد المسلمين) الا واكتوى بنار الارهاب الوحشي شمالا ويمينا. وقبل تلك العشرية او اكثر كاد ذات الارهاب ان يدمر الجزائر بعد ان ادخلها في مقتلة حرب اهلية استنزفت عقدا من السنين، ومعه مئات الالوف من الابرياء، وثروات البلد، ومستقبلاته.
بيد ان الشبح الاخطر من كل ذلك، الآن وراهنا، يقبع في حيرتنا إزاء التساؤل عن النقطة الزمنية التي نعيشها على وجه الدقة في منحنى توغل وتمدد الارهاب الداعشي الدموي: أنحن في البدايات، ام المنتصف، ام النهايات. حيرة ترهن مستقبلات بلدان عربية ومجتمعاتها للمجهول. يكفي ان نتأمل الرعب الكامن في هذا المجهول عندما نذكر انفسنا ان داعش يتحكم في حياة سبعة ملايين من الناس في الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها في سورية والعراق، والتأمل في ما يمكن ان يفعله التنظيم من غسل لدماغ عشرات الالوف من الصبية والمراهقين والشبان. كلما امتد حكم داعش على هؤلاء اتيحت له فسحة زمنية اطول كي يضاعف تجنيده لهؤلاء ويقولبهم الى "ذباحين" في ايديولوجيا العنف والدم التي لا تفهم الا القتل. لو استمر حكم داعش الى خمس سنوات قادمة فإن معنى ذلك ان جيلاً شاباً نشأ في مناخ الدعشنة المُتخم، ولو فرضنا ان عشر معشار ذلك الجيل انخرط في القتل الداعشي فمعنى ذلك ان جيشا من الدواعش قد تولي داخليا، تُناط به مهمة تدمير ما لم يتم تدميره من بلدان عربية واسلامية.
خلاصات ذلك كله يمكن تأملها على اكثر من وجه. الاول، هو ان الخسارات الفادحة والدمار الحقيقي جراء الارهاب الذي صار يتخذ المنطقة العربية مقراً له، تواجهه دول ومجتمعات وبلدان المنطقة. دولنا ومجتمعاتنا هي التي تتفكك وتنهار وتتحطم، وليس المجتمعات الغربية. وما يجب ان يرتبط بذلك مباشرة هو الكف عن احالة مسؤولية محاربة الارهاب والقضاء عليه على الغرب، وكأن هذه المشكلة مشكلة غربية وفقط. الطرف الاساسي والمركزي والرئيسي الذي يدمره الارهاب الداعشي وما سبقه هو الدول العربية، وهي التي صارت مهددة في وحدتها ومستقبلها، وبالتالي هي التي يجب ان تنتفض لمواجهة هذه الكارثة وتضعها على رأس اجنداتها. مسؤولية مواجهة ارهاب داعش هو مسؤولية عربية بالدرجة الاولى، ثم دولية وغربية بالدرجة الثانية.
الوجه الثاني متعلق بالجدل والنقاش الذي لا ينتهي حول جذور الظاهرة الارهابية ومسبباتها والبيئات التي انتجتها، وهو جدل مهم وضروري لأن له علاقة مباشرة جداً بطرق مواجهتها. هذا الجدل قد ينتقل من مسار البحث الموضوعي المفيد الذي يقود الى فرض تعديل السياسات وتخليق بيئات غير مواتية لنشوء الارهاب، الى مسار المناكفة السجالية التي تستهدف تسجيل النقاط وادانة هذا الطرف او ذاك اكثر من اي شيء. بإيجاز مُبتسر وربما مخل في النقاش يمكن النظر الى الارهاب الحالي على انه نتاج ثلاثة مجموعات من العوامل: الاولى خارجية ومتعلقة بالسياسات الغربية التدخلية والعسكرية منذ فرض إنشاء اسرائيل في المنطقة، مرورا بكل سياسات الحرب الباردة وتوظيف الاطراف الاسلاموية لخدمة هذا الطرف او ذاك، وصولا الى "الجهاد ضد السوفييات" في افغانستان الاولى، ثم افغانستان الثانية وبعدها والعراق وما تلا ذلك من كوارث. الغرب مسؤول هنا مسؤولية مطلقة عن الخراب العالمي الذي تسبب فيه، وعليه تقع جزء كبير من المسؤولية في مواجهة ما نحن فيه. المجموعة الثانية من العوامل، داخلية ومتعلقة بفشل دولة ما بعد الاستقلال العربية في بناء مجتمعات واقتصادات قوية تحقق الحدود الدنيا من مطالب الشرائح الاعرض للشعب، وتوفر له الحد الادنى من الكرامة. وهو فشل قاد الى زيادة منسوب التطرف الايديولوجي الذي صب في نهاية الامر لصالح تيارات التعصب وجماعات الارهاب الديني التي استقوت بالخطاب الخلاصوي الديني. والمجموعة الثالثة من العوامل متعلقة بالتعليم والثقافة الاعلامية والاجتماعية التي اتجهت نحو المحافظة والسلفية في نصف القرن الماضي، بحيث ان الانظمة التعليمية للدول نفسها انتجت خصومها واعداءها بسبب تسلل الخطاب الداعشي الناعم فيها وفي المجال العام بشكل اجمالي.
معنى ذلك ان مجموعتين من العوامل تلك تنتمي الى "الداخل" ومعالجتها يجب ان تكون داخلية ولا علاقة للخارج بها علاقة وطيدة وقوية. والتكلس في التحليل عند مجموعة العوامل الاولى الخاصة بالخارج وفقط معناه البحث عن تسويغ الكسل الفكري والسياسي، والخوف من مواجهة الذات، والعجز عن ايجاد حلول. نستطيع ان ندوام تكرار التحليل الذي يقول ان جذور الارهاب الاصولي تعود الى ما قامت به اميركا من تصنيع لما سمي بالمجاهدين الافغان خلال حربها ضد الاتحاد السوفياتي، ثم غز اميركا للعراق وما افرزه من جماعات، وسوى ذلك كثير. بيد ان ذلك كله لن يحمي بلداننا من التدمير الحال بها ان لم تنهض النخب الحاكمة، والنخب المثقفة، ومنظمات المجتمع المدني، وتيارات الاعتدال، وكل من يخشى على مستقبل هذه البلدان، لتحمل جزء من المسؤولية في مواجهة الارهاب الداعشي وكل ما له علاقة به.