قلنا في المقال السابق أن غياب ثقافة التُبين عندنا، جعلنا نستسلم للكثير من المقولات الخاطئة، ومن ثم نصدر على أساسها أحكاما خاطئة، وضربنا على ذلك مثالا هو الزعم بأن العرب والمسلمين ينظرون إلى المرأة نظرة دونية، وهي نظرة يتبناها التكفيريون في ممارساتهم مع المرأة في المناطق الخاضعة لسيطرتهم, بزعم ان هذه الممارسات من الاسلام وهو زعم يجافي الحقيقة، حيث تؤكد الوقائع والنصوص خلاف ذلك، وقلنا أن العرب والمسلمين جعلوا كرامة المرأة مقياساً من مقاييس كرامة الأمة كلها، وهو معنى نحب أن نؤكده ونسعى لتجدده في حياتنا المعاصرة، من خلال الاستناد إلى تجربتنا الحضارية في جوانبها المشرقة، ذلك أنه لكل أمة فترات انحطاط حضاري لا بد من معالجتها والخلاص منها، مثلما أن لكل أمة فترات ازدهار حضاري لا بد من تجديدها والبناء عليها، وهو ما نسعى إليه من خلال التذكير بالكثير من الوقائع التاريخية التي تفند كذب مقولة دونية نظرة العرب والمسلمين إلى المراة، واقتصار دورها على خدمة منزلها كنموذج للمقولات الخاطئة التي تستخدم للنيل من أمتنا وحضارتنا ووسمها بوسم التخلف، ففي أرض العرب ظهرت كوكبة من أعظم ملكات التاريخ، ففي اليمن وطن العرب الأصلي كانت بلقيس، التي تحدث القرآن عن عظمة حكمها وحكِمتها، وفي الشام ظهرت الزباء ملكة تدمر العربية التي قارعت روما، وفي مكة كانت هند بنت عتبة، هي المحرك الحقيقي للأفعال والمواقف التي كانت تقوم بها قريش ضد رسول الله ودولته الناشئة في يثرب، وإن كان الزعيم المعلن لمكة يومذاك هو أبو سفيان، وفي مكة أيضا لعبت أم لهب «أروى بنت حرب بن أمية» أخت أبي سفيان بن حرب دوراً مركزيا في جهود منع التحول والتغير الذي كان يجري على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لقد نزل قرآنا في ذكر دور أم لهب بقوله تعالى «تبت يدا أبي لهب وتب...إلى قوله تعالى «وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد» وهند وأم لهب نموذجان لدور المرأة ومكانتها في حياة العرب، وهما وإن قدمتا نموذجين سلبيين، ففي تاريخ العرب الكثير الكثير من النماذج الإيجابية لدور المرأة في حياة مجتمعها، ففي تارخ العرب ما قبل الإسلام الكثير من الشاعرات اللواتي خلد التاريخ شعرهن، بكل ما يعنيه الشعر للعرب، والمكانة التي كان يحتلها الشعراء في مجتمعهم، وهي مكانة لم تقتصر على الشعراء الرجال ففي ديوان العرب الكثير من الشاعرات العظيمات اللواتي تدل مكانتهن في قبائلهن على المكانة السامية للمرأة في المجتمع العربي، على خلاف ما يشاع دون تمحيص وتدقيق.
وفي غير الشعر أيضاً برزت نساء كثيرات خاصة في مجال العرافة والكهانة، أي في مجال العقيدة والاعتقاد، ولو كانت نظرة العرب دونية للمرأة لما رددوا أشعارها، ولما استشاروها في أمور الحكم، بل لما تجاوزوا معها مرحلة الاستشارة إلى مرحلة مبايعتها بالملك عليهم في غير بقعة من بقاعهم، وفي غير فترة من فترات تاريخهم، ولما قبلوا بها مرجعا من مراجع اعتقادهم، ولما حفظ لنا التاريخ أسماء بعض كاهناتهم، وفي مجال العقيدة والاعتقاد أيضا يذكرلنا التاريخ الكثيرمن العرافات اللواتي كان العرب يرجعون إليهن في أمور دينهم ودنياهم، ثم لنتذكر أنه بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وبروز حركة الردة، كان من بين من ادعى النبوة امرأة هي «سجاح بنت الحارث» التي تبعها قومها، وكان ممن سار في ركابها جماعة من سادة أمراء بني تميم, وعدد كبير من بني تغلب وبني يربوع, ونظم شعراء شعراً في مدحها وبيعتها، بل أن مسيلمة الكذاب خافها وهادنها ثم تزوجها، وهو دليل آخر على مكانة المرأة عند العرب حد ادعاء النبوة، التي اتبعها سادة لم يجدوا في ذلك غضاضة أو مسا برجولتهم، أو خروجا على المألوف من عاداتهم وثقافتهم التي تقبل بالمرأة سيدة وقائدة لهم.
ومثل قبول العرب بشراكة المرأة للرجل في شوؤن الدين والاعتقاد، وشوؤن الشعر والأدب، والرياسة في السياسة كذلك قبلوا بأن تكون المرأة شريكا اقتصاديا للرجل، فقد كانت للنساء تجارتهن وقوافلهن، ومنهن السيدة خديجة بنت خويلد، التي عمل رسول الله عليه السلام في تجارتها وقوافلها، فلو كانت نظرة العرب إلى المرأة وعملها نظرة دونيه لحمى الله رسوله من هذه النظرة، التي كان سيأخذها عليه القرشيون وسائر العرب، لكن ذلك لم يتم لأن عمل المرأة ومشاركتها في الفعل الاقتصادي كان أمراً طبيعياً عند العرب، كانت تمارسه النساء من كل الطبقات الاجتماعية بما فيهن علية القوم كالسيدة خديجة عليها رضوان الله. وهي من نسب وحسب وشرف قبل الإسلام وبعده.
كثيرة هي الوقائع والنصوص التي تكذب مقولة نظرة العرب الدونية إلى المرأة بل إن الوقائع والنصوص تؤكد عكس ذلك من رفعة مكانة المرأة في المجتمع العربي، وأنها كانت أحد أهم مقاييس كرامة العرب وشرفهم، وأنها كانت شريكا فاعلا للرجل في السياسة والحرب والثقافة والاقتصاد، وهي المكانة التي جاء الإسلام ليؤكدها ويعززها، كما سنرى في مقال قادم.