أخر الأخبار
عرب القرن التاسع عشر الميلادي
عرب القرن التاسع عشر الميلادي

كلما ازددت اطلاعا على انجازات عرب القرن التاسع عشر الميلادي ، ازدادت قناعتي بأنه عصر التنوير العربي والتفتح وبناء الفكر ، وكلما جن جنون عرب القرن الحادي والعشرين  ، وازدادوا تطرفا وأوغلوا في القتل والاقصاء والتعصب ، ذهبت للبحث عن الصور المشرقة لأستعيد ثقتي التي بدأت تتهاوى ، بالعودة لمصادر الفكر والانفتاح على العلم عند الآخر ، وربما كان تنبه  أهالي بلاد الشام ومصر إلى ترجمة الأدب والعلم عند أوروبا هي الصورة الأنصع والأكثر نقاء ، فقد رسخ محمد علي باشا “ الكبير “ بإرساله البعوث إلى فرنسا البدايات ، وكانت البعثة الأولى إلى باريس عام 1826 م وفيها رفاعة رافع الطهطاوي إماما ، وقد اشترط هذا الرجل الكبير حقا على كل مبعوث عند عودته أن يحمل معه كتابا فرنسيا مترجما إلى العربية في العلم الذي تخصص فيه ، وكانت الحصيلة ترجمات متنوعة في الهندسة وبناء الجسور والطب والتشريح والتاريخ والجغرافيا والأدب  والزراعة وغيرها من العلوم والفنون ، وصارت هذه الكتب نواة للمناهج الدراسية في المؤسسات الجديدة التي تبناها الرجل الكبير ، وعندما عاد رفاعة الطهطاوي من باريس عام 1831 م أسس “ دار الترجمة “ وأصبح “ ناظر قلم الترجمة بديوان المصرية “ وبدأت الترجمات عن الآداب العالمية منذ ذلك التاريخ ، وبدأ عرب القرن التاسع عشر  بقراءة نوعية ، وتبنت مؤسسات هذا العمل المنظم مع نشوء الصحافة ودور النشر ، وصارت تصدر رواية مترجمة عن دار الهلال في كل شهر ..!  ووصلتنا رواية مطبوعة بالعربية في مالطا عام 1835 م معربة عن رواية روبنسن كروزو الشهيرة ، وساهمت باريس بطباعة أقدم رواية عن عنترة بن شداد فارس بني عبس .. أليست هذه من المفارقات الجميلة أن تتبني باريس  التي شهدت مشاهد الموت والرعب والإرهاب قبل أيام معدودات ، نشر رواية بالعربية عام 1848 م ..؟ حسنا ، ماذا نقول لأنفسنا عندما  نجد أن العرب من أهل الوعي ترجموا ما بين سنوات 1835 م و1927 م ( 431 ) رواية ..؟ وماذا لو علمنا أن هذه الروايات مترجمة إلى العربية من الفرنسية والإنجليزية والبرتغالية والروسية والفارسية والتركية ..؟  وماذا لو وجدنا أن هذه الروايات المترجمة تصل إلى عرب المهجر آنذاك بالبحر في حين يرسل عرب المهجر صحفهم إلى سوريا ومصر ( سوريا بالطبع هي سوريا  الكبرى لبنان وسوريا والأردن وفلسطين ..للتذكير فقط فقد كان عرب سوريا يسمون أنفسهم في بلاد المهجر “ بالسوريين “ وهكذا عرفتهم الجهات الرسمية في الأمريكيتين  ) وللحق فقد قام على الترجمات أهالي لبنان الذين برعوا في اللغات الغربية وبالعربية على حد سواء ، كذلك الحال مع بعض المصريين والدمشقيين “ ممن وصفوا أنفسهم بأنهم ( الدمشقي نزيل القاهرة ) وهذا يعني أننا نتحدث عن حالة تنوير عربية مشرقية ، وحركة ترجمة منظمة متتابعة تتبناها المؤسسات والأفراد على حد سواء ،  ومما يلفت للنظر تحويل بعض هذه الروايات إلى مسرحيات تجتذب الحضور ممن لم يتسنى لهم الحصول على نسخة من الروايات المترجمة التي كانت حديث المجتمع القاهري ومجتمع الإسكندرية ، ومن متابعتنا لسنوات تعريب وترجمة الروايات الغربية إلى اللغة العربية وجدنا أن مرحلة السبعينيات والثمانينات كانت هي الذروة في عدد ونوعية الروايات المترجمة التي وضعت بين أيدي القراء العرب ، الذين كانوا يفكرون عندها بالتحرر وبالدولة العربية  .. والآن من يقوم على ترجمة العلوم والآداب للعرب ..؟ هل يقرأ العرب فكر الآخر أم ينغلقون على أنفسهم  ..؟ ما موقف الجهات الرسمية من هذه الحقائق المؤلمة ..؟ لماذا تظلم الجهات الرسمية العربية شعوبها ولا تتبني خططا مدروسة لترجمة فكر العالم الراقي  من علم وأدب وفلسفة  ..؟ هل تلوموني إن قلت لكم بأن عرب القرن التاسع عشر كانوا هم  العرب النموذج ..؟  لم نعد نحتمل كل هذا الجنون العربي ، ولئلا نفقد ثقتنا بكل ما حولنا نرتد نحو زمن جميل كان العرب فيه يفكرون ولا يقتتلون ولا يقتلون ...!