تشهد العلاقات الدولية ظواهر متعددة تعكس طبيعة التفاعل وميزان القوى والمصالح في العالم المعاصر. وإذا كان القرن العشرون شهد صعود قوى كبرى وهبوط أخرى، فإن القرن الحادي والعشرين سيشهد توزعا وتفككا لمفهوم القوة التقليدية المهيمنة على السياسة الدولية. إن أهم ظواهر ذلك هو ظهور القوة العابرة للدولة الوطنية ليس على أساس تشكيل منظمات دولية وإقليمية بل صعود قوة غير منظمة عابرة لحدود الدولة الوطنية ومتجاوزة لها وغير معترفة بها. وكنا في هذا المكان في الأسبوع الماضي قد أحلنا بكثير من التفصيل إلى ظاهرة «الإرهاب الجديد». لكن حتى نفهم أكثر ظاهرة الإرهاب الجديد لابد من فهم كيفية تعاطي القوى الكبرى خاصة الولايات المتحدة مع القضايا الدولية واستجابتها للتحديات التي تطرأ حين تتم معالجة بعض القضايا، بحيث تصبح القضايا الجديدة نتيجة للحلول المقدمة لمعالجة ظواهر سابقة. والحال كذلك فإن الاستمرار في تطوير نشوء الظواهر والقضايا سيظل موجوداً وسيحكم طبيعة التفاعلات الدولية حتى يحدث تغير جذري مهول. وعادة لا تحدث هذه التغيرات إلا مع انهيارات كبرى أو حروب كونية كبرى. حين تقول الطامحة للبيت الأبيض ووزيرة خارجية واشنطن السابقة هيلاري كلينتون إن إدارتها هي من خلقت داعش، فيجب ألا نصاب بالكثير من الدهشة ونصرخ «واااو» لقد اعترفت واشنطن بجريمتها، لأن الامر لا يحتوي على اعتراف بذنب أو إقرار بخطأ. إذ إن طبيعة التعاطي الأميركي مع السياسة الخارجية والقضايا التي تقع خارج حدود واشنطن قائمة على فكرة إدارة العلاقات وإدارة الأزمات وليس حلها. خلال عملية الإدارة تلك قد تنشأ حاجة لحفر حفرة عميقة في الطريق أو إقامة ساتر ضخم، لا تتردد واشنطن بفعل ذلك، وتقول لنفسها بعد أن تنتهي الحاجة للحفر نقوم بردمها وبعد أن تنتفي قيمة الساتر نقوم بهدمه. وداعش لم تكن بالنسبة لواشنطن أكثر من حاجة ماسة في لحظة تاريخية معينة من أجل إكمال تفتيت العراق والقضاء بعد انفجار الربيع العربي على مكونات الدولة السورية. يجب عدم استحضار نظرية المؤامرة هنا، لأنها فعلاً غير موجودة. كل ما في الأمر أن ثمة توظيفا أدواتيا لبعض ظواهر العلاقات الدولية. إنه نفس المنطق الذي تم على أساسه دعم وجود طالبان والقاعدة لمحاربة المد الشيوعي في أفغانستان، إلا أن تاريخ تدخل الولايات المتحدة في أميركيا اللاتينية صادم أكثر من أي شيء آخر. لقد وجدت ديكتاتوريات أميركا اللاتينية في واشنطن الداعم الأكبر لقمعها لشعوبها وللثورات التي اندلعت في أحراشها وغاباتها وشوارع مدنها مطالبة بالحرية وإنهاء عصور من العبودية والاستغلال، بل إن واشنطن أحبطت وبرغبة وتدبير الكثير من عمليات التحول الديمقراطي التي كان من شأن وجودها المبكر في بعض دول أميركا اللاتينية أن تنقل هذه الدول الفقيرة إلى مصاف الدول الغنية والقوية. لكن واشنطن اختارت دائماً أن تنحاز لمصالحها الضيقة على حساب القيم الإنسانية وحقوق الإنسان وحريات الشعوب. هذا لا يعني أن واشنطن تتصرف دون استراتيجية واضحة وعميقة وبعيدة المدى عند تدخلها في السياسة الدولية، لأن من شأن القول بذلك أن يبدو إجحافاً غير مبرر للدولة الأولى في العالم. لكن المؤكد أن القول إن واشنطن تنظر إلى القضايا الدولية ضمن مفهوم إدارتها يعني أن ثمة استراتيجية من نوع ما تقوم على «عدم قطع الجسر قبل أن تصله» كما يقول المثل الإنجليري. فما قالته كلنتون لم يكن اكتشافاً، وهو بالتالي لا يعتبر خروجاً عن تقاليد السياسية الأميركية. الحل الأميريكي جاهز بكل تأكيد: يجب القضاء على داعش لقد انتهينا منها. وفي تلك اللحظة التي يصبح العالم كله متضرراً من وجود داعش، تصير المطالبة بالقضاء عليها مطلباً أممياً وهدفاً أساساً للحفاظ على الأمن والسلم الكونيين. من هنا يأتي المُرّكب الآخر من آلية تعاطي واشنطن مع القضايا الدولية. إنها آلية قائمة على المزاوجة بين الحاجة للفعل الأحادي والتصرف دون رجوع للمؤسسات الدولية وبين استخدام المؤسسات الدولية في إضفاء شرعية على تصرف مبالغ فيه. فواشنطن حين يتعلق الأمر ببعض القضايا لا تنتظر موافقة المجتمع الدولي، وهي تتصرف مثل شرطي الحانة في أفلام الكاوبوي الذي لا يهمه لو قام بتحطيم نصف الحانة من أجل أن ينفذ ما يعتقد أنه الصواب ومصلحة الحانة. ومصلحة الحانة هي عادة كرامته وكبرياؤه وليست مصلحة البلدة وكبرياءها. وعليه فإنه في الكثير من المواضيع والقضايا ذهبت واشنطن منفردة إلى الحروب ولم تلتفت لمواقف ووجهات نظر حتى حليفتها التقليدية أوروبا. مثال ذلك بالطبع الحادي عشر من أيلول حين تعرضت الولايات المتحدة الأميركية لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية إلى هجوم من الخارج، وقتها ذهبت واشنطن لتقصف في أفغانستان قبل أن يصدر القرار الأممي الداعم لتوجيه ضربات عسكرية ضد طالبان والقاعدة. كان الحصول على القرار مؤكداً بالنسبة لواشنطن لكن كانت الحاجة للتصرف حتى لو لم يصدر القرار أكثر إلحاحاً. في مواضع أخرى تتريث واشنطن وتحتمي بالمؤسسات الدولية من أجل أن تضمن مشاركة أكبر عدد من الحلفاء في حروبها، وهي تلجأ إلى هذا الخيار في القضايا التي لا تمس مصالحها بشكل مباشر، بل تؤثر في مصالحها وتمس بعض حلفائها. الأمر ينطبق مؤخراً على الهجوم على العراق وتدميره واحتلاله وتفكيك الدولة العراقية حيث عملت واشنطن على استصدار القرارات اللازمة التي كفلت مشاركة مجموعة من الدول وإن بشكل رمزي معها مثل بريطانيا وبولندا واستراليا وغيرهم. لا يتعلق الأمر بموقف واشنطن ونظرتها إلى مركزية هذه المؤسسات بل في نظرة واشنطن لتداعيات ما ستقوم به وطريقة معالجتها للأزمة. مرة أخرى ما يهم واشنطن في هذا المضمار هو الحاجة لإدارة الأزمة والقضية قيد النقاش، فإن استوجبت إدارة هذه الأزمة استصدار قرار من مجلس الأمن أو الجمعية العامة سعت لذلك، وفي حالة لم تجد حاجة لفعل ذلك ذهبت للحرب دون أن تلتفت للخلف.