أخر الأخبار
مصر أمام امتحان وجودي
مصر أمام امتحان وجودي

محمود الريماوي

حدث في مصر ما كان أقرب إلى الكوابيس: نُذر حرب أهلية متصاعدة، انشطار أهلي، اعتماد العنف وحده لمعالجة أزمة سياسية، تعطل الحياة العامة، واستهداف مرافق الدولة وخاصة مراكز الشرطة، وتهديد مراكز دينية وكذلك رموز دينية إسلامية ومسيحية معاً، ولجوء حزب بعينه إلى استخدام السلاح جهاراً نهاراً، وإعلان حالة الطوارئ وحظر التجول ليلاً.

هذه التطورات مخيفة فهي أشبه بكرة النار التي كلما تدحرجت أكثر ازداد لهيبها، وتطاير الشرر منها لتنشأ عنها كرات لهب أخرى وهكذا دواليك. يتمنى المرء بتحقيق “معجزة”، وتم نزع فتيل المواجهات الدامية المفتوحة .  نعم إن التمني يدور حول تحقق معجزة وليس أقل من ذلك، فالقوى السياسية  ومعها قوى أهلية واجتماعية غابت  عن المشهد ووقعت في ارتباك عظيم، أو أن بعضها  اكتفى باللجوء  للنفخ في لهيب الأزمة وإطلاق الدعوات الاستئصالية، وتشجيع المواجهات . حتى أن الحكومة غابت، واختزلت برئيس الحكومة ووزيري الدفاع والداخلية.

هناك شيء أقرب إلى استقالة السياسة، يخيم بظلاله الثقيلة على أرض الكنانة، ويجعل “الحسم” منوطاً بالمواجهات التي تجري في قلب القاهرة وشوارع المدن الرئيسة . وتندرج في هذا الحسم أعمال التخريب المتعمد  وإحراق مؤسسات كبيرة، ومنع رجال الإطفاء من أداء واجباتهم.

بات واضحاً الآن أن فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة في القاهرة بالقوة،  وما نجم عنه من سقوط أعداد كبيرة من الضحايا في صفوف المدنيين ورجال الشرطة، يستخدم ذريعة من جانب الطرف المتضرر لإطلاق أكبر موجة من الترويع . ولا يعلم المرء كيف يمكن التوفيق بين الدعوات لإعادة رئيس معزول إلى رأس الدولة، وبين استهداف مرافق الدولة وتدمير ممتلكات عامة في الوقت نفسه؟ . وما شأن فض اعتصامين بالقوة وبين استهداف كنائس كرَدّ على ما جرى؟

 كان من الواجب بالطبع معالجة الإخلالات بالأمن بلا تهاون وخاصة استهداف مراكز الأمن،  ومتابعة من يحوزون أسلحة وينقلونها ويهددون باستخدامها، ولكن من دون طرح المعالجة السياسية جانباً حتى لو اقتضى الأمر مزيداً من الصبر.

وها نحن نرى كيف دخلت البلاد إلى نفق مسدود، باعتماد الحل الأمني وحده . وهذا التشخيص للمسألة ينسحب بطبيعة الحال على رموز الإخوان وقياداتهم، الذين أغلقوا الطريق أمام الوسطاء الدوليين وغيرهم متمسكين بعودة مرسي أولاً، رافضين أية حلول وسطى من قبيل فتح الطريق أمام انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة، وأسبغوا على الأزمة السياسية طابعاً دينياً بتصوير عزل مرسي على أنه يضاهي استهداف الكعبة المشرفة، وعملوا على تحشيد جمهورهم على أساس ديني إلى جانب شعارات “استعادة الشرعية”، حتى أنهم رفضوا وساطة الأزهر متجاهلين ما يتمتع به هذا الصرح من مكانة رمزية وتاريخية، كما تم من طرف الإخوان استبعاد حزب النور السلفي من الوساطات، وفي هذه الأجواء تزعزعت الوحدة الوطنية، وشق الحل الأمني طريقه بعد صعود تحذيرات شتى  تحذر من وقوعه، كما تحذر المعتصمين فيه من مغبّة مواجهة كارثية.

والبادي أن خيار المواجهة العنيفة كان مستقراً في وعي الإخوان، وجرى التحضير المسبق لسيناريوهاته في حال فض الاعتصامين، بإطلاق حملة ترويع  ونشر الفوضى العارمة والتركيز على المراكز الأمنية، وهو أمر سبق حتى فض الاعتصامين وتصاعد بعدئذ، واتسع نطاقه على مستوى الجمهورية، وبهذا فإن رافضي “الانقلاب” على النظام الذي قاده مرسي، لم يترددوا في الانقلاب على الدولة، دولة كل المصريين، لا على النظام الجديد الناشئ وحده . ومن الطبيعي ألا يجتذبوا  مع هذه الممارسات تأييداً شعبياً، رغم ما أبدوه من قدرة فائقة على التحشيد هنا وهناك وفي أوقات متزامنة . وعلى خلاف ذلك نشبت وتنشب مواجهات مع الأهالي، مع ميل ظاهر للإخوان للمبادرة بالعنف  بداعي الدفاع عن النفس حتى مع أهالي عُزّل!

العنف يقود الى المزيد منه . في ظروف مصر التي تشهد اكتظاظاً سكانياً، وبؤراً كبيرة للفقر والعاطلين عن العمل، مع وجود أسلحة خفيفة  بين أيدي المهربين والأشقياء وأصحاب السوابق، فإن العنف الذي يبدو حتى الآن عنفاً “سياسياً”، بات قابلاً لأن يتحول الى فوضى عنفية ذات روافد اجتماعية شتى، ومن هنا تتبدى خطورة ما يحدث، إذا بقي الأفق السياسي على انسداده، وإذا لم تتقدم قوى وطنية على طريق بذل الوساطات لنزع فتيل العنف، وتهيئة الأجواء لحوار جدي تشارك فيه على الأقل قوى قريبة من الإخوان مما يعرف بتحالف دعم الشرعية . والذين أخذوا على محمد البرادعي استقالته وكذلك الذين رحبوا بها، فإن عليهم استثمار المكانة التي يحتلها هذا الرجل هو وسواه من شخصيات وازنة (المؤرخ طارق البشري مثلاً)، من أجل التجسير لعبور هذه المرحلة بأقل الأضرار وتشكيل كتلة  يعتدّ بها  عموم الجمهور لإشاعة أجواء تنبذ العنف، وتفتح الطريق أمام حلول أو إجراءات انتقالية متفق عليها، بدلاً من الاستسلام للدوامة العنفية والركون إلى حلول صفرية.