تعددت أشكال ومستويات التضامن التي عبرت عنها عواصم عربية وإسلامية مع المملكة العربية السعودية في مواجهة إيران وتفاوت، بما يوفر للباحث والمراقب فرصة ثمينة، للتعرف على حقائق العلاقات التي تربط السعودية، واستتباعاً بإيران، بمروحة واسعة من دول الإقليم. ثلاث دول بلغت الحد الأقصى في ردّات أفعالها على قيام محتجين بإحراق سفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد: البحرين، جيبوتي والسودان ... البحرين اتخذت مواقف متطابقة مع المواقف السعودية، ومضبوطة على إيقاعها، من سحب السفير إلى قطع العلاقات إلى وقف الرحلات و»الحبل على الجرار» ... جيبوتي، اكتفت بقطع العلاقات، ولا أدري إن كانت هناك رحلات أصلاً بين جيبوتي وإيران، لكن قرار الدولة الصغيرة والفقيرة، وفر لبعض «ظرفاء» إيران، مادة للتهكم والسخرية ... أما المفاجأة النسبية، فجاءت من الخرطوم، التي يبدو أنها قررت «استراتيجياً» نقل بندقيتها من كتف إلى كتف، وتتحيّن كل فرصة للبرهنة على أنها لم تعد تدور في الفلك الإيراني. دولٌ أخرى، آثرت تخفيض مستوى التمثيل (الإمارات) أو استدعاء سفرائها من طهران (الأردن، الكويت وقطر) ... دول أخرى اكتفت بإصدار بيانات الشجب والاستنكار من دون أن تستتبعها بأية إجراءات ملموسة، تشف عن مستوى أعمق من التضامن مع المملكة أو تعبر بصورة أشد عن الغضب من الممارسة الإيرانية ... بيد أن الأمر اللافت للانتباه، إنما يتمثل في مواقف الدول الإسلامية الكبرى، والتي لطالما صنفت في خانة «الحلفاء الكبار» للمملكة، كالباكستان واندونيسيا وتركيا... هذه الدول آثرت عرض القيام بدور «الوسيط»، ولم تتصرف كحليف، وإن كانت قد أصدرت ما يكفي من بيانات الشجب والاستنكار، خصوصاً باللغة التركية. ردة الفعل الإيرانية على اعدام النمر كانت موضع شجب واستنكار من قبل المجتمع الدولي من دون استثناء، بمن في ذلك أصدقاء إيران، إذ يصعب تبرير وتسويق الاعتداءات على السفارات والبعثات الدبلوماسية، ففي ذلك خرق جسيم للمعاهدات والمواثيق الدولية ... حتى أن في إيران ذاتها من انتقد واعتذر، والبعثة الإيرانية في نيويورك ذاتها، عبرت عن الأسف لما حصل، وسعت جاهدة في «تخليص المستوى الرسمي والحكومي من أوزاره»، ولكن من دون جدوى بالطبع. اليوم، لا ندري كيف ستتفاعل ردود الأفعال والمواقف الدولية على حرق السفارة والقنصلية السعوديتين، سيما بعد الأنباء التي تتحدث عن استهداف طيران التحالف الدولي ، للسفارة الإيرانية في صنعاء، وإلحاق أضرار مباشرة بمبانيها، وإصابة عدد من حراسها والعاملين فيها ... لا أحد يريد أن يرى «حرب سفارات» وقد اندلعت بين إيران والسعودية، وغالبية دول المنطقة وشعوبها، تبدي مخاوف حقيقية من مغبة هذا التدهور في العلاقات بين البلدين الكبيرين. إن أكثر المواقف وردود الأفعال التي تستدعي التأمل والتوقف، تلك التي صدرت عن الباكستان بالدرجة الأولى، وعن تركيا بالدرجة الثانية ... فمن منظور الرياض، تعد الباكستان دولة حليفة، استهلكت عشرات المليارات من الدولارات السعودية على مدى السنوات والعقود ... أما تركيا، فلم يجف بعد، الحبر الذي كتبت به اتفاقية انشاء «مجلس التعاون الاستراتيجي» بين البلدين، والتي نظر إليها بوصفها انتقالاً في العلاقة بين البلدين من التعاون إلى التحالف ... أنقرة وإسلام أباد، آثرتا القيام بدور «الوسيط النزيه» على ممارسة دور «الحليف المُكلف» على ما يبدو ... كلتاهما دول من «العيار الثقيل»، ولكلتيهما علاقات وطيدة ومتشعبة مع إيران، والمؤكد أنهما تخشيان الانزلاق إلى قعر حروب الطوائف والمذاهب، مع أن البلدين لا يخفيان هويتهما الإسلامية، السنيّة بخاصة. الباكستان بخاصة (التي يزورها الآن وزير الخارجية السعودية عادل الجبير) وخلال عام واحد فقط، وجهت ضربتين قويتين لعلاقاتها الوطيدة مع المملكة، أو بالأحرى لرهانات المملكة على هذه العلاقة: الأولى؛ عندما صوت برلمانها بالإجماع على رفض الانضمام لتحالف «عاصفة الحزم» ضد اليمن، والثانية؛ عندما تحفظت على «عضويتها» في التحالف الإسلامي العسكري الذي أعلنته الرياض، وبدلاً عن ذلك، أوعزت لسفيرها في دمشق أن يلتقي بوزير الخارجية السوري اللواء محمد الشعار، لتخرج تصريحات عن الاجتماع، تشدد على «المصلحة المشتركة» للبلدين في الحرب على الإرهاب، وتثمن دور سوريا في هذه الحرب؟! مصر، بهذه المناسبة، ليست بعيدة تماماً عن الموقفين التركي والباكستاني حيال هذه الأزمة (والاندونيسي بالطبع)، فهي وإن كانت متلقٍ كبير للمساعدات السعودية السخيّة، إلا أنها تحتفظ لنفسها بـ «هامش مناورة واسع»، تكتفي بالتصريحات المؤيدة للمملكة والداعمة لها «إلى حد مسافة السكّة»، لكنها عملياً لم تقدم على الانخراط أو التورط، لا في الحرب على اليمن، ولا في الصراع ضد إيران، وتتخذ مواقف مغايرة في سوريا، حتى أن مواقفها الفعلية من ملفات المنطقة بمجملها، تركت للإعلام ليعبر عنها . والخلاصة، أن ظاهر العلاقات «المزدهرة» بين هذه العواصم والدول الكبيرة، لا يعكس باطنها وجوهرها، فتحت سطح المجاملات والعبارات الدبلوماسية المنمّقة، والتحالفات التي تنشأ وتموت دون أن نعرف لماذا نشأت وممن تكونت، ولماذا انحلت وباتت نسياً منسياً ... تحت كل هذه «الأغبرة» و»الرطانة»، تكمن أعمق المصالح والحسابات الوطنية والقومية المتناقضة، وتتفاعل خلافات عميقة، تصل حد الصراع أحياناً، ولكن بصمت وهدوء، إلى أن تنجلي غبار اللحظة الانتقالية الصعبة والحرجة في الإقليم برمته على ما يبدو.