أخر الأخبار
من الشرق الأوسط إلى أميركا اللاتينية !
من الشرق الأوسط إلى أميركا اللاتينية !

عندما اكتب حول موضوع معين ، أو قضية ما ، أقرا كثيرا وأسأل أكثر ، لأنني لا اريد ان العب دور الاستاذ الرديء الذي يدعّي معرفة كل شيء ، أو المنظّر الذي يعتقد أنه يمتلك الحقيقة وحده ، وقد أكون مصيبا ، أو قد اكون مخطئا.
كتب الكثيرون حول مسالة الانسحاب الاميركي من الشرق الاوسط ، وانكفاء دور الادارة الاميركية المباشر والفاعل والمؤثر في المنطقة ، مع احتفاظها بمهمة الالتزام بامن وسلامة اسرائيل والحفاظ على تفوقها العسكري ، في ظل تنامي القوة العسكرية الايرانية ، وهي القضية التي لا يختلف حولها اثنان في الولايات المتحدة الاميركية.
هذه المسالة كانت ولا تزال محور نقاش وجدل ، ومركز اهتمام الكثير من المتابعين والمراقبين والمحللين السياسيين ، وهي في الحقيقة تستحق المتابعة والاهتمام ، لأنها تدخل في صلب رؤية الرئيس الاميركي اوباما التي كشف عنها في فترة متأخرة من عهده ، وتحمل ملامح الاستراتيجية الاميركية الجديدة ، التي تتجه بوصلتها نحو اميركا اللاتينية وجنوب اسيا.
وفي قراءة شمولية للمشهد في محاولة للفهم ، اعتقد أن واشنطن لم تنسحب من المنطقة ، وتتركها مشرعة الابواب امام روسيا ومصالحها ، بل أن الادارة الاميركية وصلت الى قناعة بضرورة القبول بوجود شراكة في الشرق الاوسط ، يحمل الطرف الآخر عنها عبئا كبيرا ، ويرث تركة ثقيلة في محيط هائج ومضطرب ومشتعل ، مع وجود اصابع اميركية تواصل اللعب بالتنسيق والتعاون مع دول صديقة في المنطقة.
هذه الرؤية الاميركية اصطدمت مع الرغبات والمصالح الاسرائيلية ، بالرغم من التعهد الاميركي الثابت الالتزام بامن اسرائيل. الادارة الاميركية ، وحسب رؤية الرئيس اوباما ، ومن أجل المصالح الاميركية ، ضرورة عدم التدخل العسكري المباشر في سوريا ، وعدم توجيه ضربة عسكرية لاسقاط النظام في دمشق ، ليس تعففا او « كرم اخلاق « من الرئيس وادارته ، بل كي لا يتكرر خطا وخطيئة السيناريو الليبي ، فتعم الفوضى وينتشر العنف في المنطقة ، وبالذات على الحدود مع اسرائيل.
وفي خطوة ثانية ، صمدت الادارة الاميركية أمام الضغوط التي مارستها المنظمات الصهيونية والحركات اليهودية في اميركا ، وتقدمت بثبات واكملت الاتفاق حول الملف النووي الايراني ، ورفع العقوبات تدريجيا بهدف احتواء ايران ، وتمكينها من فتج ابوابها الاقتصادية على العالم املا بتغيير مسارها بالقدر الذي يبعدها عن الشرعية الثورية. ودافع اوباما عن انجازاته بشدة ، في مواجهة الحملة التي شنها نتنياهو والمنظمات الصهيونية على ادارته ، لأنه اعتبرها خطوات تخدم المصالح الاميركية ومن اجل مصلحة اسرائيل قبل كل شيء.
وهناك رأي آخر يقول أن الادارة الاميركية لم تعد تعتبر الشرق الاوسط المنطقة الحيوية الأهم للمصالح الاميركية المستقبلية ، خصوصا بعد وجود فائض كبير من المخزون النفطي لدى الولايات المتحدة ، وبعد اكتشاف التكنولوجيا اللازمة لاستخراج النفط والغاز من المسامات الصخرية بكميات هائلة ، قد تجعل اميركا في مقدمة الدول المصدرة للنفط والغاز ، وربما يبدا العمل بالتصدير في العام المقبل. واصحاب هذا الرأي يحاولون ربط هذا الواقع بالخلافات بين الادارة الاميركية ومعظم الدول الصديقة لها في المنطقة.
والثابت أن انكفاء الدور الاميركي في الشرق الاوسط ترافق مع الفتوحات الاميركية في اميركا اللاتينية وجنوب آسيا ، وصولا الى الصين أي انها تسلك طريق الحرير حاملة بضاعتها التقليدية (الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان ). وقد بدات المشوار بتطبيع العلاقات مع كوبا ، وزيارة الرئيس اوباما التاريخية الى هافانا ، وفي اتجاه اخر من الشرق الاوسط الى جنوب آسيا واذا كانت واشنطن قد قبلت بالشريك الروسي في الشرق الاوسط ، فهي ماضية باحداث تغييرات في الخريطة السياسية في حديقتها الخلفية ( اميركا اللاتينية ) فهي ساعية الى ايجاد موطئ قدم لها في اقصى آسيا ، على حساب الطموح الروسي القديم الجديد.
واللافت انها نجحت في احداث تغيير في فنزويلا من خلال دعم المعارضة للوصول الى السلطة ، وهي الان مشغولة في اثارة المعارضة ضد حكم حزب العمال اليساري في البرازيل ، مع التذكير بان البرازيل عضو في مجموعة ( بريكس ) الاقتصادية التي تقودها روسيا والصين ، ومعهما البرازيل والهند وجنوب افريقيا ، التي يواجه رئيسها جاكوب زوما ازمة خانقة صعبة ايضا.
خلاصة القول ان الولايات المتحدة قد تنسحب من هنا او هناك، ولكن ليس انسحابا بالمعنى الدقيق ، ولا تحمل الخير على نواصيها في حلها وترحالها. واشنطن تعرف أن الطبيعة ترفض الفراغ ، وهناك من هو قادر على ملء الفراغ بسرعة ، لذلك ستظل تمارس لعبة الامم التي تتقنها باسم الحرية والديقراطية وحقوق الانسان ، ليس من اجل مصالح الشعوب ، بل من أجل مصالحها فحسب ، بعيدا عن المبادئ والقيم والاخلاق .