أخر الأخبار
نماذج مبتكرة لاحتواء الإرهاب
نماذج مبتكرة لاحتواء الإرهاب

في سياق مواجهة الإرهاب والتطرف العنيف اعتمدت بعض الحكومات الأوروبية نماذج مبتكرة غبر تقليدية بعيدة المدى تقوم على إعادة التوجيه والدمج، تستند إلى سياسات ليبرالية في التعامل مع المقاتلين الأجانب العائدين، على أساس مبدأ المواطنة في إطار الديمقراطية وحكم القانون، باعتباره يوفر فرصة أخرى للمواطن لإعادة التأهيل والاندماج في المجتمع، من خلال التعامل بصورة فردية مع دوافع المقاتلين الإجانب العائدين، ومعرفة الأسباب التي دفعتهم للانضمام إلى جماعات إرهابية أو متشددة، وتلك التي حملتهم إلى خيار الانشقاق والعودة مرة أخرى إلى بلدانهم، وتجنب التعامل معهم كإرهابيين ومتطرفين لا يمكن تحويلهم وإعادة إدماجهم، فدوافع الالتحاق بجماعات ومنظمات إرهابية ومتطرفة متنوعة سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية، وليست إيديولوجية دينية محضة.
على الرغم من سيادة المقاربات العسكرية والأمنية الحكومية، إلا أن ثمة إدراكا دوليا بضرورة إشراك وتمكين المجتمعات المحلية في عمليات نزع التطرف العنيف، حيث يناضل أنصار السياسات الليبرالية استنادا إلى قرار مجلس الأمن الدولي 2178 الذي يؤكد على ضرورة تمكين الفاعلين المحليين للعمل على نزع التطرف وإعادة دمج المقاتلين الأجانب العائدين، ففي مدينة آرهوس، ثاني أكبر مدينة في الدنمارك، انخرطت الشرطة والمجلس البلدي، بالتنسيق مع المنظمات غير الحكومية الوطنية والمحلية هناك، على نطاقٍ واسع مع المجتمعات الإسلامية، لمنع المقاتلين الأجانب من المغادرة من خلال «برنامج الوقاية المبكرة» وتشجيع الآخرين على العودة من خلال «برنامج الخروج».
برزت خلال السنوات الأخيرة في أوروبا مجموعة من البرامج التي تقوم على سياسة الاحتواء وفق مقاربات غير تقليدية تعتمد على إعادة التوجيه وإدرارة الاعتقاد وعمليات الإدماج في المجتمع، حيث تبنت بعض الدول الأوروبية برامج للتعامل مع العائدين من بؤر الصراعات والعناصر المتطرفة كحالات فردية يتم دراسة كل منها على حدا بحيث تتراوح أساليب التعامل بين إعادة التأهيل الفكري والرعاية النفسية والدمج المجتمعي، وتتمثل أهم برامج الدمج المجتمعي في «نموذج أرهوس» في الدنمارك الذي يقوم على مشاركة الأجهزة الأمنية مع المجتمعات المحلية في دمج المتطرفين من خلال توفير فرص لاستكمال الدراسة والعمل وتيسيرات معيشية ومهنية ومزايا اجتماعية بهدف دفعهم لنبذ التطرف والعنف، أما «برنامج حياة» في ألمانيا فيقوم على التكامل بين التأهيل العقائدي والفكري والنفسي بالتوازي مع التأهيل الوظيفي والمجتمعي لدمج المتطرفين في الحياة العامة ومعالجة شعورهم بالاغتراب المجتمعي.
تعتبر التجربة الدنماركية من أشهر التجارب من خلال نموذج «آرهوس»، حيث ترتكز مقاربة الدنمارك على التكامل والشمول، من خلال الجمع بين مقاربة الحرب والعدالة الجنائية والاحتواء، ففي الوقت الذي تقوم فيه الدنمارك باعتقال ومحاكمة المقاتلين العائدين الذين تثبت مشاركتهم في الإرهاب، إلا أنها تقدّم المساعدة للآخرين وتعمل على تأمين فرص العمل والسكن والتعليم والإرشاد، إذ لا ترمي هذه البرامج إلى تغيير العقيدة الإسلامية المحافظة ما دامت غير عنيفة، فالأستاذ بريبِن بِرتيلسِن، وهو أستاذ علم النفس بجامعة آرهوس الذي يُنظر لأبحاثه في «علم النفس والحياة» على نطاقٍ واسع باعتبارها الأساس العلمي لـ «نموذج آرهوس»، يقول: إن ما يُسمّي بـ»نموذج آرهوس» يتمحور حول الاحتواء، فانظر لكل هؤلاء الشباب، ستجدهم يكافحون مشاكل مشابهة لما يواجهه شباب كثيرون حول العالم ــ بناء حياتهم وفهم العالم من حولهم وإيجاد مساحة ومعنى في مجتمعاتهم، ما علينا أن قوله لهم هو: إذا لم ترتكبوا أي نوع من الجرائم، سنساعدكم نحن على إيجاد طريق للعودة». يلخص أللان آرسليف، وهو المسؤول عن دور الشرطة في برنامج معالجة التطرف في آرهوس، طبيعة البرنامج التكاملية بين المؤسسات الحكومة والمجتمع المدني، ويعترف بصعوبة المهمة والخيارات، فهو يقول: «من السهل تمرير قوانين صارمة، ولكن الصعب هو التعامل بحق ولوقت طويل مع أولئك الأفراد، وهي عملية تحتاج مجموعات من الخبراء، والمستشارين النفسيين، والرعاية الصحية، والمساعدة على العودة إلى المسار التعليمي أو المهني، والبحث عن إقامة، فهي عملية عودة إلى نمط الحياة اليومية الطبيعية والانسجام مع المجتمع، ونحن لا نفعلها انطلاقًا من أي معتقدات سياسية، ولكن لأننا نعتقد أنها تنجح في النهاية»، ذلك أن هذه العملية تتم بالتوازي مع حوارات مفتوحة ومكثفة، وصعبة في أحيان كثيرة، بين مسؤولي المدينة وأئمة مسجد جريمهويفَي، ففي العام 2013 ، شهد مسجد جريمهويفَي في مدينة آرهوس مغادرة 22 من أتباعه للجهاد في سوريا، في حين لم يسافر سوى 8 أشخاص فقط من سكان المدينة في تلك السنة. وبعد اتصال فريق التوعية في آرهوس بقيادة المسجد، لم يغادر سوى عضو واحد من المسجد في العام 2014 ومن بين سكان آرهوس ال 33 الذين غادروا إلى سوريا والعراق منذ العام 2011 ، عاد 16 بتيسير من السلطات والمستشارين. ولم يرتكب أيٌ منهم بعد ذلك جرائم خطيرة، ومعظمهم يعملون الآن أو عادوا للدراسة.
الجزء الأهم والأبرز في برنامج آرهوس، كما يقول كل من شاركوا فيه، هو استخدامه لمعلّمين شخصيين يمكن لأولئك المقاتلين العائدين، أو الراغبين في العودة إلى القتال، أن يلجأوا لهم فيما يخص حياتهم اليومية، ويدخلوا معهم في حوارات جدية بشأن الدين والأخلاق، إذ يقول عمدة آرهوس: «لا يمكنك ببساطة تمرير قوانين تفرض على الناس كيف يفكرون وبما يؤمنون، ولكن يمكنك أن تعمل بإخلاص من أجل الحوار والاندماج في المجتمع»، القوانين الرأسية والإجراءات الصارمة جيدة، هذا ما تقوله تجربة آرهوس، ولكن الحل الجذري هو المنهج الأفقي المنصب على تفاصيل الحياة اليومية.
لقد أصبح نموذج آرهوس نقطة نقاش محورية وأساسية في التعامل مع النزوع نحو التطرف والإرهاب وعمليات إعادة التوجيه والدمج، إذ يقدم النموذج إجابة على سؤال «كيف نمنعهم من التوجّه إلى مناطق النزاع وحمل السلاح والتدرب عليه ثم العودة إلى مجتمعاتهم وقد أصبحوا أكثر تشدداً؟»، وفي هذا السياق يقول الخبير في شؤون التوجّه نحو التشدد جوناثان بيردويل بأن: «هناك وعي بين الخبراء بأن نموذج آرهوس هو الأفضل الآن ويجب نشره في باقي المدن الأوروبية».