أخر الأخبار
عن الذين يتذكرون بلفور وينسون نتنياهو
عن الذين يتذكرون بلفور وينسون نتنياهو

في تقييم أهمية الخبر يلتفت المحررون الصحافيون المحترفون إلى مجموعة من العناصر، منها طبيعة الحدث الذي ينقله الخبر، وقربه المكاني من جغرافيا القارئ أو المستمع أو المشاهد، وجدته الزمنية.. وغرابته أو طرافته. لذا، يبدو الإعلان عن توجه السلطة الفلسطينية لمقاضاة بريطانيا على خلفية وعد بلفور المشؤوم خبراً مهماً، ينبغي أن يتصدر النشرات الإخبارية والصفحات الأولى في الجرائد، ليس بسبب ما يحمله من محتوى سياسي، ولا بسبب تعلقه بفلسطين نقطة الارتكاز في معادلات الحرب والسلام في المنطقة، ولا بسبب طزاجة التصريحات المنسوبة إلى المسؤولين الفلسطينيين.. ولكن لغرابة المحتوى الذي يثير الدهشة بقدر ما يثير السخرية. بالطبع، من حق الفلسطينيين أن يقاضوا بريطانيا على هذا الوعد الكارثي الذي منحته لليهود والتزمت به وحققته لهم، على حساب شعب تشتت في كل جهات الأرض عندما صدقت وعود الأعداء وكذبت وعود الأشقاء. ولا نعتقد أن هناك من يبرئ بريطانيا من هذه الجريمة، أو يمتلك الوقاحة للدفاع عن "حق اليهود في وطن قومي في فلسطين"، باستثناء حفنة من المطبعين العرب المعجبين بالنموذج الإسرائيلي. ولا نظن أن هناك من يستطيع استجواب الحق الفلسطيني في هذا التوجه لو جاء في وقته.  لكن هذا التوجه يجيء فارغاً من أي محتوى جدي عندما يعلن الآن، وقبل أشهر قليلة من مئوية الوعد البريطاني، وبعد تحول بريطانيا من إمبراطورية عظمى إلى دولة تنكفئ على نفسها داخل جزرها الصغيرة، ولا تستطيع حتى الانسجام مع الوحدة الأوروبية. ثم كيف تستقيم الدعوة لمقاضاة بريطانيا على وعد بلفور من قبل سلطة معترف بها رسمياً بنتيجة الوعد المشؤوم وبالكيان المبندق الذي أنتجه الوعد، بل إن السلطة التي تريد محاكمة المقبور بلفور، تصر على على التنسيق الأمني مع بنيامين نتانياهو! وكيف يمكن أن يتعامل العالم بجدية مع دعوى قضائية ترفعها السلطة بأثر رجعي لمقاضاة بريطانيا على جريمة تاريخية حدثت قبل قرن أسود من الزمن الاستعماري، بينما تتواطأ وتماطل وترفض مقاضاة الاحتلال الاسرائيلي على جرائمه اليومية في الأرض الفلسطينية المحتلة؟ لماذا الآن؟ وهل تغني مقاضاة بريطانيا عن محاكمة إسرائيل؟! يجيب صديقي الفلسطيني الذي لم يفقد قدرته على السخرية رغم سنوات السجن والمطاردة بأن "المفلس ينبش في الدفاتر العتيقة". ويضيف في تفسيره لهذه المفارقة أن الإنسان عندما يشيخ فإنه يصبح أكثر قدرة على تذكر الحوادث القديمة بينما ينسى الأحداث القريبة والراهنة، لأن خلايا الدماغ تبدأ في الموت بعد الخمسين، ولا يبقى في الشيخوخة إلا الخلايا الحية المحتفظة بالمعلومات القديمة. ويستغرب صديقي من استغرابي... فيمضي إلى القول إن صاحب القرار في هذه اللحظة السياسية دخل في مرحلة الشيخوخة منذ سنين، ولذلك فإنه لا ينتبه للمقارنة بين تقديس اليهود لوعد بلفور وتقديس السلطة الفلسطينية للتنسيق الأمني مع إسرائيل. استمع إلى صديقي، ويظل السؤال عالقاً في فمي: شاخ صاحب القرار، ولكن هل شاخت القضية؟ في كل الأحوال، قد تمضي السلطة في توجهها، وقد يكون الأمر كله مجرد حقنة تخدير جديدة، لكنني أنتظر ما ستنتجه الآلة الإعلامية للإخوان المسلمين وذراعها الحمساوي من أخبار مثيرة حول القضية، ووثائق تكشف خفايا المؤامرة البلفورية، ومنها مثلا صورة قديمة بالأبيض والأسود من لقاء سري بين بلفور ومحمد دحلان في أحد فنادق لندن عام 1916.