فتح تحت حراب المقاطعة “1”.. لمحات من رحيل أبو عمار !
كتب محمد رشسد :
هل الوطن الفلسطيني " طابو " مجير لمحمود عباس وأولاده وأحفاده ؟ ، أم وطن قومي للشعب الفلسطيني ، وملكية هذا الوطن تعود لأكثر من 13 مليون فلسطيني ؟
هل منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ؟ ، أم هي منظمة " العباسية " المتجبرة لصاحبها الحصري والوحيد محمود رضا عباس ؟
هل حركة التحرير الوطني الفلسطيني " فتح " التي أطلقها دون أن يورثها الزعيم الراحل أبو عمار بصحبة أخوة الكفاح أبو جهاد و أبو إياد و أبو الأديب وغيرهم هي هوية الفتحاويين وتمييزهم وركن رئيس في الكفاح الوطني الفلسطيني ؟ ، أم أنها حقا " حفيدة " محمود عباس كما وصفها الدعي المنافق الأسبوع الماضي خلال إجتماع اللجنة المركزية للحركة ؟
لا أحتاج شخصيا لدلائل و قرائن إضافية ، فلدي ما يكفي من الأسباب لإحتقار محمود عباس إدعاء و كذبا و لصوصية و إنتهاكا للحرمات الفلسطينية ، أما أن تكون " فتح " حفيدة محمود عباس ، فذلك معناه إن الحركة القائدة للشعب الفلسطيني في بيئة محفوفة بمخاطر إجتماعية ووطنية ، وأن فتح تحت وصاية أسرة غير أمينة أو مؤتمنة قيميا ، لأنها أسرة و من واقع الدفتر الإجتماعي ، تعاني تفككا و تفتك بها متوالية الفصام الإجتماعي ، مما يترك آثارا مدمرة على الأحفاد ، تظهر ملامحها واضحة على سلوك أحفاد محمود عباس البايولوجيين ، فهل نسلم " فتح " لتلك البيئة و العقد النفسية الفتاكة ؟
خلال الأيام الماضية ، و بفضل مواقع التواصل الإجتماعي ، شاهدت ولأول مرة فيديوهات متداولة يتحدث فيها محمود عباس عن علاقته مع الزعيم الراحل ياسر عرفات ، شاهدته وهو يكذب دون أن يرمش له جفن ، شاهدته و هو يتقمص دور الدكتور سلام فياض مدعيا أن أبو عمار تحدث أليه من مشفاه الفرنسي مشددا على أهمية دفع رواتب الناس قبل حلول الأيام الكريمة ، و لسوء طالع ذلك الكذوب القزم إنه لم يكن في مقام أو وظيفة تدفع أبو عمار لمخاطبته في شؤون العامة ، كما ان أبو عمار لم يأتمن عباس على حياة الفلسطينيين ، فطرده شر طردة .
الأقدار وحدها جعلتني شاهدا ولاعبا فاعلا في قصة الساعات الأخيرة من حياة أبو عمار ، وسأروي لكم الحكاية كما حصلت ، طبعا كثيرون غيري يعرفون الوقائع ، لكنهم اليوم إما رهائن تحت قبضة عباس العفنة ، أو مشبوكون بدائرة مصالح إنتهازية تمنعهم من البوح بالحقيقة ، أو إنهم في صفوف معارضي عباس .
كنا في شهر رمضان ، وكان عصر يوم الخميس ، و قبل موعد صلاة العصر وصلت مكتب الرئيس الراحل بالمقاطعة بعد طول شقاء بإنتظار الاذن الإسرائيلي عبور جسر اللنبي ، فقد أنتظرت ليومين متتاليين في العاصمة الأردنية عمان ، و ظهر يوم ذلك الخميس المشؤوم أبلغت بموافقة العبور ، فشعرت بخطورة الموقف ، وبمقدار الإقتراب من خط نهاية حياة الزعيم .
وصلت " المقاطعة " قبل موعد صلاة العصر ، دخلت المبنى المحطم بفعل القصف و الحصار الإسرائيلي الطويل ، و كانوا جميعا هناك ، الأصدقاء والأعداء ، لم ألتفت الى الحضور ، وتوجهت مباشرة الى حيث كان يرقد الزعيم على سرير صغير ، وفي غرفة ضيقة وبسيطة على يسار الممر وكأنها غرفة أي لاجئ في مخيم فلسطيني ، و كانت هناك السيدة سهى عرفات المذعورة على حياة زوجها الزعيم ، و كان هناك الدكتور رمزي خوري مدير مكتب الزعيم الى جانب الشهيد موسى عرفات بكل ما له و ما عليه .
آذان العصر كان قد رفع ، وكان أبو عمار يصلي العصر جالسا على كرسي خشبي صغير ، فوقفت عند حافة الباب على يمينه ، و مرت الثواني دهرا و عمرا ، تذكرت خلالها رحلة ربع قرن أو يزيد ، فقد كنت مع هذا الرجل وعايشته فهدا متأهبا وثابا في حصار بيروت ، ثم رأيته يخترق حصار طرابلس لبنان 1983 عائدا لمعانقة جنوده ، وكنت من يدير مكتبه و أسراره بحكم غياب العديد من الخلص المؤتمنين ، ومعا ركبنا البحرالى مناف جديدة ، ثم رافقته الى دورة المجلس الوطني في عمان ، و كنت شاهدا على إسقاطه لخيارات محمود عباس والإنحياز لخيارات أبو جهاد و أبو إياد ، و رأيته و هو يعيد تجميع الساحة الفلسطينية في الجزائر ، وذهلت من قدرته الخارقة على إحتواء من خرج على فتح ، و كنت لصيقا به خلال حرب مخيمات لبنان ، وأجبرني على عودة الى وطن لا أهل فيه و لا ذكريات سوى الرفاق والأصحاب !
غلبه النعاس المرضي بعد أن صلى وسلم يميناً ثم يسارا ، وغلبتني الدموع ، وتذكرت مرضه في حصار طرابلس لإسبوع وأكثر دون أن يقطع فرض الصلوات ، لكنه وفي تلك اللحظة بالمقاطعة أستعاد صحوته العرفاتية المعتادة بعد قليل وسأل :
يا خالد أنت هنا ؟
قلت نعم يا ريس تحت أمرك !
قال " الاخوة في الخارج يكتبون صيغة بيان ، أريدك أن تراجعه قبل النشر " ، والتفت الى الأخ الدكتور رمزي وقال " خالد يراجع البيان قبل أن يصدر " ، ثم همس لي " لا أثق ببعضهم ، أنت فاهمني ؟ " .
قلت : نعم ، لا تقلق .
و بعد تلك الكلمات القليلة نام ، غاب ، لا ادري ، هل نام أو غاب ، أم ذهب الى رحاب الرحمن ، لا أدري ، فقد كنت شاردا في ملكوت الذكريات القاسية .
الحق يقال ، عاد الدكتور رمزي خوري وأبلغني بأن الأخوة ينتظرونني لمراجعة البيان ، فخرجت ، وكان هناك الأخ الشهيد صخر حبش " أبو نزار " ، والأخ ياسر عبد ربه وقد كان أعز القادة الى قلب أبو عمار ورفيق رحلة الكفاح .
راجعت البيان المكتوب ، وعدلت ما عدلت بما فرضت اللحظة القاتلة علي من عبارات وقيم ، وتقبل القائدان أبو نزار وأبو بشار تعديلاتي عن طيب خاطر ، فقد كنت معتادا على تعديلات اللحظات الأخيرة ، ولم أتدخل الا في بضع كلمات ، فالبيان المكتوب كان يقترح صيغة " القيادة قررت سفر الرئيس للعلاج " ، واعتبرت ذلك إعلانا مبكرا ومجحفا يفقد الزعيم " الأهلية " ، وأقترحت صيغة مختلفة نصها " قررالرئيس وبعد التشاور مع الفريق الطبي السفر الى رحلة علاج في العاصمة الفرنسية " .
ثم فوجئت بمحمود عباس يقف خلفنا ، وفوجئت أيضا بأنه هو من أجاز تعديلات البيان وبسرعة خارقة ، بل وفوجئت أصلا بأنه موجود في المقاطعة ، فقد كان في قطيعة تامة مع أبو عمار بعد طرده من رئاسة الوزراء ، وفي تلك اللحظات الصادمة بدا لي عباس منتشيا ونشيطا ، وكأنه كان يقول خذ ما تريد من مرونة اللغة ، وسآخذ ما أريد من حقائق الأمر الواقع .
تحاملت على نفسي وابتلعت مرارة الشماتة وسألته :
هل أنت مسافر معنا الى فرنسا ؟
قال : مسموح فقط بسفر أعداد محدودة ؟
قلت : ومن يملك القرار ؟
قال : من غير الإسرائيليين والأردنيين .
قلت : لا أحد يستطيع منع سفرك مع أبو عمار ، وأضفت : عليك أن تكون معه في الرحلة العلاجية خاصة بعد تلك القطيعة الطويلة والمعروفة .
قال : لدينا ما نعمل هنا لترتيب الأمور
لترتيب الأمور ؟
تلك الجملة كانت ترن في أذني ونحن نقطع نهر الأردن ليلا ، محمد دحلان ونبيل أبو ردينة وحسين حسين وأنا سافرنا ليلة الخميس الى عمان لكسر تطويق رحلة أبو عمار الأخيرة ، والاخوة الأردنيون فتحوا لنا جسر أللنبي وأبواب عمان في ساعة متأخرة من الليل ، وفي صباح اليوم التالي كان دولة الرئيس هاني الملقي على رأس مراسم الوداع الأخير للرئيس الشهيد أبو عمار ، ولدولته أن يفخر بذلك الحدث التاريخي أبدا ، فقد كان حاضرا بود ومحبة عن ما غاب عنه ورثة ياسر عرفات .
من باريس تحدثت مرة واحدة الى محمود عباس ، وطلبت اليه الحضور فورا لأن الأنباء غير مطمئنة وقلت :
الأمور ليست جيدة إطلاقا ، وأقترح حضورك وكبار القادة فورا .
قال : لا أريد الحضور بوجود ..........
قلت : نحن أمام لحظة تاريخية فاصلة ......
قال : أعلم ، ولكن ماذا لو منعت من دخول المستشفى ؟
قلت : مستحيل ، إن قررت أنت الحضور فليس هناك من يمنع أو ما يمنع !
لم يقتنع ، ورغم كل التأكيدات الإسرائيلية والأمريكية ، بل والفرنسية أيضا ، كان محمود عباس خائفا من عدم موت أبو عمار ، ولم يحضر الى باريس الا بعد أن أكدت لي وكالات حكومية فرنسية رسمية إستحالة بقاء الزعيم على قيد الحياة ، وطلبوا ألي إبلاغ رام الله بالحقيقة ، فاقترحت عليهم إبلاغ المعلومات ذاتها الى الأخ محمد دحلان لأنه الأقدر على التواصل مع القيادات في رام الله ، وذلك ما حصل ، ولم يأت عباس الى باريس الا بعد إلحاح وضغوط كبيرة من الأخ محمد دحلان .
جاء عباس الى باريس مدججا بالحقد والشر ، فلم يكن يعاني من وعثاء السفر وسوء المنقلب ، بل كان يعاني من قوة حضور " غياب " ياسر عرفات المحتمل ، ومن حقيقة الفارق العظيم ، بين الأفق الواسع ، وبين ضيق الفكر والملكات ، كان واضحا عليه قلق اللحظات وظلال الماضي ، كان صعبا وقاسيا عليه مواجهة أنوار المستقبل بعد أن دكن وخلل في سراديب الإهمال والنسيان لأربعة عقود ، كان مستحيلا عليه ، بل لم يرغب بمواجهة وجه ياسر عرفات الغائب المغيب ، كان كارها وحقودا غير قادر على إخفاء الشر والكراهية ، ورفض حتى دخول الغرفة التي كانت تحتضن ما تبقى من جسد ياسر عرفات ، بل ورفض إلقاء سلام الوداع الأخير على أبو عمار حتى عبر الزجاج الفاصل ، ولم يغادر غرفة مدير المستشفى الا نحو البوابة الخارجية هاربا من وجه سيده وحاميه ، وتلك لحظة نذالة متكررة في التاريخ البشري .
فقط الأخ أبو علاء هو من أصر وصمم على عبور جسر الوجع ، فدخل الى حيث يرقد الشهيد الخالد ، خاطب أبو عمار بكلمات حب موجعة ، طالب الزعيم بالنهوض والعودة الى شعبه ، كان أبو علاء يبكي ويتمنى ويتألم ، كان أبو علاء حقا ممثلا للشعب الفلسطيني في لحظة الإصطدام بالحقيقة ، ولم يصدق ما رأى ، ولن ينسى ما رأى . أما عباس فقد كان مشغولا بترتيبات العودة العاجلة الى رام الله ، كان متحفزا ومتأهبا لإختطاف اللحظة ، فلم يكن جزءا من المأساة ، بل كان نتاجا لها ، كان جزءا أو لغما منسيا من حروب ياسر عرفات الطويلة ، لغم ما كان له أن ينفجر الا بموت عرفات .