أخر الأخبار
كيس طحين وذئاب
كيس طحين وذئاب

 

سمير عطالله
كيف كانت الحياة في السعودية منتصف الستينات؟ سوف أعود إلى كتاب «عشت سعيدا» للواء الطيار عبد الله السعدون. قبل أن يأتي إلى الرياض طالبا في ثانوية «اليمامة» عام 1966، كان يأتي إليها في الصيف لزيارة أخته وزوجها. أين يمضي أمتع الوقت؟ في «سوق المقيبرة»، ولن يكون مجرد متسكع في السوق، بل سوف يتحول إلى التجارة. تجارة ماذا؟ وبأي رأسمال؟ إليك جواب الراوي: «فكرت في شيء أبيعه فلم أجد سوى الماء الذي يشتغل في بيعه الكثير من الأولاد في مثل سني، فهو لا يحتاج إلى رأسمال سوى جردل أضع فيه الماء، وكأس واحدة يشرب منها الجميع. كنت أشتري كسرة ثلج ثم أمشي بالماء بين المحال أو أقف عند مفترق الطرق، الشربة الواحدة بقرش واحد، بعضهم يكون عطشانا ويشترط أكثر من كأس بنفس السعر، وبعضهم يبحث عن عذر كي لا يدفع، وتكون الحصيلة، مع أذان الظهر، في حدود ريال واحد».
في مشهد آخر نرى والدة عبد الله السعدون في منزلها القروي وفي بابه معزاة. أو نرى عمته متعبة نامت الليلة الماضية دون عشاء، وها هي أمه تأتي إليها تطلب منها الانضمام إلى العائلة. جاءت العمة الفقيرة ومعها أيضا معزاتها. من هذا المنزل سوف يذهب السعدون إلى الثانوية، فإلى الكلية، فإلى مدرسة الطيران، فإلى أميركا. مشاهد من السحر والبؤس عاشها جيله في أسرع عملية انتقال، من مرحلة إلى مرحلة، ومن حال إلى حال. لا حياء في الحقيقة. الراوي لا يتوقف عند شيء. نراه آتيا إلى الرياض في صندوق وانيت قديم. ثم نرى «الوانيت» تتعطل وتتوقف في ليل الصحراء. وكان مع صاحبها كيس طحين يحمله هدية إلى ابنته في الرياض. فلما ادلهم الليل، أنزل الكيس ونام إلى جانبه، خوفا من أن يغافله أحد ويسرقه. وإذ يرتجف من الخوف والبرد يسأل الفتى صاحب «الوانيت»: هل تأتي الذئاب إلى هنا؟ «بكثرة»، يجيب الرجل وهو يتمسك بكيس الطحين.
أقرأ «عشت سعيدا» في طريق العودة من الغاط إلى الرياض، بينما تمر بنا مئات السيارات الحديثة، خصوصا الرباعي الفخم منها، الناقة الحديثة، التي تلتهم الرمال والوقود. أما استهلاك الطاقة الوحيد في منزل السعدون، فكان «كيروسين» المصباح الشحيح، الأقرب إلى العتم منه إلى الضوء. يتطلع الراوي إلى تلك الأيام بقبول ورضا. يتذكر تصادف الأحوال. وسوف يصبح طيارا ومدرب طيران، يرى بلاده من فوق، العمار يدفع الخيام، والطب يدفع الأوبئة، والكهرباء تدفع الظلام، والماء يدفع العطش.
يضحكنا الذين يقولون إن النفط كان نقمة لا نعمة. مثلهم مثل الذين يشتغلون هذه الأيام في تركيب الجمل. يا له من عدوان على هذه المتعة الماتعة التي يعركها المفترون. وأثقل ما في الافتراء جهل صاحبه بمدى الفداحة.

سمير عطالله

كيف كانت الحياة في السعودية منتصف الستينات؟ سوف أعود إلى كتاب «عشت سعيدا» للواء الطيار عبد الله السعدون. قبل أن يأتي إلى الرياض طالبا في ثانوية «اليمامة» عام 1966، كان يأتي إليها في الصيف لزيارة أخته وزوجها. أين يمضي أمتع الوقت؟ في «سوق المقيبرة»، ولن يكون مجرد متسكع في السوق، بل سوف يتحول إلى التجارة. تجارة ماذا؟ وبأي رأسمال؟ إليك جواب الراوي: «فكرت في شيء أبيعه فلم أجد سوى الماء الذي يشتغل في بيعه الكثير من الأولاد في مثل سني، فهو لا يحتاج إلى رأسمال سوى جردل أضع فيه الماء، وكأس واحدة يشرب منها الجميع. كنت أشتري كسرة ثلج ثم أمشي بالماء بين المحال أو أقف عند مفترق الطرق، الشربة الواحدة بقرش واحد، بعضهم يكون عطشانا ويشترط أكثر من كأس بنفس السعر، وبعضهم يبحث عن عذر كي لا يدفع، وتكون الحصيلة، مع أذان الظهر، في حدود ريال واحد».
في مشهد آخر نرى والدة عبد الله السعدون في منزلها القروي وفي بابه معزاة. أو نرى عمته متعبة نامت الليلة الماضية دون عشاء، وها هي أمه تأتي إليها تطلب منها الانضمام إلى العائلة. جاءت العمة الفقيرة ومعها أيضا معزاتها. من هذا المنزل سوف يذهب السعدون إلى الثانوية، فإلى الكلية، فإلى مدرسة الطيران، فإلى أميركا. مشاهد من السحر والبؤس عاشها جيله في أسرع عملية انتقال، من مرحلة إلى مرحلة، ومن حال إلى حال. لا حياء في الحقيقة. الراوي لا يتوقف عند شيء. نراه آتيا إلى الرياض في صندوق وانيت قديم. ثم نرى «الوانيت» تتعطل وتتوقف في ليل الصحراء. وكان مع صاحبها كيس طحين يحمله هدية إلى ابنته في الرياض. فلما ادلهم الليل، أنزل الكيس ونام إلى جانبه، خوفا من أن يغافله أحد ويسرقه. وإذ يرتجف من الخوف والبرد يسأل الفتى صاحب «الوانيت»: هل تأتي الذئاب إلى هنا؟ «بكثرة»، يجيب الرجل وهو يتمسك بكيس الطحين.
أقرأ «عشت سعيدا» في طريق العودة من الغاط إلى الرياض، بينما تمر بنا مئات السيارات الحديثة، خصوصا الرباعي الفخم منها، الناقة الحديثة، التي تلتهم الرمال والوقود. أما استهلاك الطاقة الوحيد في منزل السعدون، فكان «كيروسين» المصباح الشحيح، الأقرب إلى العتم منه إلى الضوء. يتطلع الراوي إلى تلك الأيام بقبول ورضا. يتذكر تصادف الأحوال. وسوف يصبح طيارا ومدرب طيران، يرى بلاده من فوق، العمار يدفع الخيام، والطب يدفع الأوبئة، والكهرباء تدفع الظلام، والماء يدفع العطش.
يضحكنا الذين يقولون إن النفط كان نقمة لا نعمة. مثلهم مثل الذين يشتغلون هذه الأيام في تركيب الجمل. يا له من عدوان على هذه المتعة الماتعة التي يعركها المفترون. وأثقل ما في الافتراء جهل صاحبه بمدى الفداحة.