أخر الأخبار
في الفراغ الذي ملأه المصفقون
في الفراغ الذي ملأه المصفقون

لم يعد ثمة شيء، يُرجى إصلاحه في حضور عباس، بعد مشهد القاعة في "المقاطعة"، أثناء عرض المذكور، لما تيسر من فقرات التهريج والكذب الجسور. ففي الفراغ المهول، الذي ملأته عناصر من وجوهٍ، سحناتها تشبه زمنها، وقد انسلت بين صفوف الحاضرين جميعاً، عناصر أمن في إهاب مشرفين على النظام؛ تكثفت الحقيقة، التي سيسمعها الفتحاويون الغيارى، بعشرات ألوفهم، وكأنها تدوي كالطبل، لكي ينهض الغيارى على وقعه الحماسي، بكل اجتهاداتهم، وبكل رؤاهم لإحداثيات الطريق، عازمين على أنقاذ هذه الحركة المختطفة، أيقونة ياسر عرفات، الذي غابت صورته عن واجهة القاعة العباسية، وغابت ابنته الوحيدة وأرملته، وغابت صور صلاح خلف وأبو يوسف النجار وكمال عدوان، الذين غاب أبناؤهم أيضاً، بينما حضرت، مع من ملأوا الفراغ، أسر وضيعين كُثر، ومتطفلين من علائم زمنهم الرميم!

لم يعد ثمة شي، يرجى إصلاحه، بوجود محمود عباس، الذي نطق بكل خديعة، واستنكف طواعية، عن تذكير الحاضرين، بأنه صاحب الفضل في وجودهم في رام الله،  آمنين تحت حراب الاحتلال، لا يخشون دهماً ولا استدعاءً ولا حبساً، ولا قبضاً من العدو لكلامهم عن الوطن والوطنية، لأن شفاعته أوقفت عنهم بطش المحتلين، حتى عندما يتهللون فرحاً وينشدون أغنيات العاصفة.. أغنيات الثورة!

هو استنكف طواعية، عن إبلاغهم عنوان المحاضرة أو المهاترة، لكي يتعلموا كيف يستطيع المتذاكي أن يُضلل فيما هو يخون. ينطق باسم فلسطين، ويُعدد أمنيات الفلسطينين، فيزعم أن معزوفته المرقمة التي يعزفها، هي برنامج العمل، بينما هو لا يريدهم لأي عمل، ولا لأي اصطفاف في سائر الأيام، ولا يريد طرفاً غيره، في السياسة، ولا يريد مقاومة، ولا يريد شريكاً فعلياً، لا فتحاوياً، ولا حمساوياً  كما يحلم خالد مشعل، فهو الذي يختصر كل الأطياف، بطيفه الثقيل. عندما تشدق بكلمة برنامج عمل وطني، لم يجرؤ على القول، أي عمل وكيف وبأية أدوات؟. فقد أفرغ النظام السياسي من مؤسساته وحيثياته، وملأه بأصفيائه الذين لم يفوضهم الشعب، مثلما أفرغ القاعة، من أصحاب الرأي وطلاب النهوض والإصلاح وبرامج العمل، وحشاها بمن لم تفوضهم فتح،  لكي يؤدوا دورهم مصفقين وراقصين!

في الفراغ الذي ملأه عباس بعناصر الإسفاف، ارتسم المشهد المحزن، الذي يتبدى في عين الناظر، كقاعة في مشفى للمرضى النفسانيين البؤساء، الذين يثيرون الشفقة، لكنهم وهم المرضى المعذبون، يغرقون في الضحك وتغمرهم البهجة، ويغنّون، لأسباب يتخيلونها أو لصور ترتبها هواجسهم ومخيلاتهم العليلة، صورة صورة!

فعلى ماذا يبتهج هؤلاء؟ على التمدد الإستيطاني الذي لم يُبق أراض للدولة الفلسطينية؟ أم على أرجوحة الموت التي ينصبها العدو لشعب فلسطين؟ أم على حصار غزة وبؤسها، وعطالة ابنائها أو على ضحاياها من الأبناء في عرض البحر وفي دواخل الأنفاق؟ أم على الإنقسامين، الوطني والفتحاوي، اللذين يسترهما عباس بالمزيد من العورات، وبالمزيد من الكذب؟ أم ترى هؤلاء المبتهجين في القاعة، قد أحسوا بالحبور، اعتزازاً وفخراً بالنظام السياسي، الذي حقق كل ما أبلغهم به عباس: سيادة القانون، والفصل بين السلطات، ومحاربة الفساد، والتنمية، والمدن الصناعية، وشراكة دول كبرى في تنمية أقطار أخرى، والتوسع في شبكة السلك كماً وكيفاً كما يزعم؟

في فقرات التهريج والكذب الجسور، استأنس عباس بالحشو الذي ملأ به فراغ القاعة، من معظم أصحاب الرأي والرؤية. جعل الديكتاتور الصغير نفسه، صانع فردوس، للشعب، فيما هو  يعبث بمقدراته، ويكتم انفاسه، ويستخف بعقول أبنائه، ويتجاهل ما يتعرض له يومياً من والتعديات ومن تجاوزات الفاسدين المتنفذين، الذين يحققون الإثراء الحرام لأنفسهم، خصماً من خبزه ومن فرص أبنائه في العمل والعلاج والدراسة.

كان ضرورياً بالنسبة له، أن يُوقع الفراغ في القاعة لملئه بمصفقين، يساعدونه على تمرير الكذبة تلو الأخرى، فيطمئن الى أن الناس المتابعين عبر شاشات التلفزة،  قد ابتلعوا ما يقول، بشفاعة التصفيق الحار ولقطات التظارف والدعابة السمجة!

لكن الناس، التي خبرت كل أفانين الخداع، لم تبتلع حرفاً. ذلك لأن المعنيين بمقارعة المحتل، في الضفة وغزة، صنعوا المعجزات وخرقوا تدابير العدو الهجمومية وتدابير الحصار، فمن هو عباس الذي سيفلح في خداعهم؟

شباب فلسطين وبناتها وأحرارها ومناضليها سجلوا عبر صفحات التواصل آراءهم في فقرات التهريج، وهذا هو المتوقع!

 لم يكن عباس مساء أمس، في ناظر الناس، إلا الكابوس الذي شوّه صورة حركتهم الوطنية، وجعل للمرة الأولى في التاريخ، ممثلي الشعب الضحية، يشارك القاتل في القبض على أبنائه وحبسهم، وجعل العدو الذي يحتل الأرض ويقتل الشعب، للمرة الأولى في التاريخ، جاراً ينبغي مواساته وعونه. وهو الذي جعل المشتغلين في قضية التحرر الوطني كما يزعمون، بارونات مرفهين في داراتهم وسياراتهم واستثماراتهم وأكلاف سفرهم وإقامتهم. فعلى مر التاريخ، كان المشتغلون الحقيقيون في حركات التحرر الوطني، زاهدون مسكونون بهاجس العطاء والتضحية والإيثار. وعباس، هو الذي جعل للمرة الأولى، حتى في تاريخ الديكتاتوريات، سلاحه قطع الأرزاق، دونما اكتراث للتداعيات الاجتماعية لهكذا فعل حقير. فالديكتاتوريات كانت تُحيل المعارض الى الاستيداع الإداري ولا تمس خبز أطفاله. وظل عباس يتهم البريء ويكافيء الفاسد، ويسجن الأمين، ويطلق يد الفاسد لكي يرتع.

وعلى الرغم من ذلك كله، اطال عباس في فقرات التهريج والكذب، ربما، بشفاعة التصفيق. ربما يكون شعر للحظات أن الناس قد صدقته واحترمت لغته وسحنته. لكن أدرك يقيناً بعد وقت قصير،  أن حشو الفراغ الذي ملأه بتافهين، لن ينفعه في شيء!