أخر الأخبار
مصر و«حماس»... توحيد أم ترويض ؟
مصر و«حماس»... توحيد أم ترويض ؟

في السنة الأولى للانقلاب العسكري الذي نفذته حركة حماس في غزة، تحت عنوان «الحسم»، كنت أعمل سفيراً لفلسطين لدى مصر، وحين اجتمع في القاهرة كل القبائل الفلسطينية، صغيرها وكبيرها، لم أشارك في أي جلسة من الجلسات الطويلة التي كانت تتم آنذاك في واحد من أرقى فنادق الشرق الأوسط.
سألني أصدقائي القائمون والراعون للقاءات الوحدوية: لماذا نأيت بنفسك مع أنك الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين في مصر؟
قدمت جوابين؛ الأول إعلامي، والثاني سياسي.
الإعلامي قلته بصوت مرتفع، لأنني أمثل الفلسطينيين جميعاً، وحين يفرز القوم للحوار فمع أي وفد أجلس؟
أمّا الثاني الذي قلته همساً: لن ينتج عن هذه الاجتماعات أي شيء!
كان ذلك قبل عشر سنوات من التدهور المتسارع في العلاقات بين «فتح» و«حماس»، ثم بين السلطة الشرعية في رام الله، وسلطة الأمر الواقع في غزة.
في السياسة لا مجال للتفاؤل أو التشاؤم؛ بل كل المجال لقراءة الأجندات على حقيقتها، وحسابات كل صاحب أجندة، وكيف يعمل من أجل تنفيذها.
في السنوات الأولى لم يكن لحركة حماس أي مصلحة في التضحية بحكمها في غزة، كانت تعتبر نفسها مؤسسة أول نظام سياسي لـ«الإخوان المسلمين» في العالم، وأغرتها عوامل كثيرة، منها سقوط «فتح» في عقر دارها في الانتخابات التشريعية، التي تأسست في سياق أوسلو، وفازت فيها «حماس» المعارضة للسياق كله.
أمّا «فتح» فكانت تريد حقاً عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الانقلاب، وكانت مخلصة في طرحها هذا، إلا أنها لم تكن تمتلك الرؤية والأداة، فتمت تصفية نفوذها في غزة، ولم تستفد من التوق الجماهيري الواسع لحكمها اللين للقطاع، بعد أن ذاق الناس قسوة «حماس».
لم تقصّر الجماهير الغزية في مساندة «فتح»، حتى أن مليونية حقيقية احتفت بـ«فتح» وهتفت لها ورفعت راياتها، حتى بدت «حماس» الحاكمة والمتحكمة أقلية على شاطئ البحر الجماهيري.
كان الراعي الدائم وشديد الإخلاص والإلحاح لإنهاء الانقسام، هي مصر، ولا داعي لسرد بديهيات أسباب ذلك، وكانت مصر في عهد مبارك – عمر سليمان، بعيدة كل البعد عن أن تعادي حركة حماس، وكان الراحل اللواء عمر سليمان صاحب فكرة احتوائها وترويضها وعقلنتها، وهذا يستوجب بعض الإغراءات والتسهيلات.
وحين جاء التسونامي العربي، واستهدف الدولة المصرية من أساساتها، أُسدل الستار على فصل الاحتواء والترويض، وانفتح المدى واسعاً على صراع لم يخلُ من رائحة البارود والدم، كان تقدير «حماس» لحقبة أشقائهم «الإخوان» في مصر، أن عهداً إسلامياً بدأ بالتكرس من تونس إلى ليبيا إلى مصر، والحبل على الجرار في باقي بلاد العرب والمسلمين، ولعل «حماس» آنذاك لم تنتبه إلى حقيقة موضوعية تبدد الآمال المتسرعة، وهي أنه من غير المسموح وغير الممكن أن يؤسس الإسلام السياسي دولاً أو نظماً في الشرق الأوسط. لم يقرأوا جيداً هشاشة نفوذ «الإخوان» في مصر، واستحالة تمكنهم من الحكم بصورة حقيقية ولو ليوم واحد، فلم يتغير عليهم الكثير حين جلس مرسي في قصر الاتحادية مكان مبارك، حتى أن كثيرين منهم كانوا يهمسون بانتقادات لاذعة لحكم الحزب الأم في القاهرة، وبعضهم أعلن أن تسهيلات عهد مبارك كانت أكثر سخاءً.
بعد سنوات عجاف حسم فيها أمر الحكم في مصر، ولم تحسم فيها بعد المعركة ضد الإرهاب، هدأت الانفعالات، وتغلبت البراغماتية في الحسابات على الثأرية في المواقف والسياسات، وبالتدريج تطورت العلاقات بين الإدارة المصرية وسلطة الأمر الواقع، لتصل أخيراً إلى ما هي عليه الآن.
قبل سنوات قليلة، لو شاهدت المكتب السياسي لـ«حماس» يجتمع في القاهرة، وتحت رعاية مدير المخابرات المصري، لقلت هذه لقطة من فيلم خيال علمي أو سياسي، هذا حدث في الواقع الآن، وبالنسبة لي لم أشعر بمفاجأة في الأمر، إذ إنّ اجتماع المكتب السياسي في القاهرة أو إسطنبول أو الدوحة، أو حتى موسكو وقد يدعى لذلك، لن يغير من الحقائق السياسية الراسخة شيئاً، فما زالت القاهرة تريد أشياء كثيرة من «حماس» وهي لا تستطيع تلبيتها، وما زالت التقاطعات التحالفية مهيمنة على المشهد السياسي في جميع العواصم الشرق أوسطية، وما زالت إسرائيل تغالي في شروطها لرفع الحصار أو تخفيفه، وما زال الأميركيون ومن يدور في فلكهم لهم رأي آخر وسلوك آخر.
لا جديد حتى الآن لكي لا نكون متشائمين سلفاً، يتبلور في القاهرة على صعيد المصالحة الحقيقية بين الفلسطينيين، قال البعض إن الجديد هو عودة زخم الدور المصري في الأمر.
الدور المصري في الحقيقة من الثوابت الراسخة في أي أمر يتعلق بغزة، واستطراداً بفلسطين، فمعبر رفح ليس في إسطنبول وليس في الدوحة ولا في طهران، وسيناء هي الجوار العربي والدولي الوحيد، والأجواء والماء والهواء في مصر، وبالتالي لا جديد في هذا الأمر، وإن كان هنالك من جديد فليس في القاهرة وإنما في نيويورك، حيث قد يظهر الخيط الأبيض من الأسود حين يلتقي ترمب بعباس، ويفصح له عن سقف الصفقة التاريخية المرتقبة، فإن كانت مثلما يتسرب بين وقت وآخر منخفضة إلى حد محرج، فقد يتحد عباس مع «حماس» في رفضها، دون أن يتغير الوضع على الأرض بين غزة ورام الله، وإذا ما أظهر عباس مرونة في معالجة العرض المحتمل من ترمب، فيتعين علينا ترقب رد فعل «حماس»، وقد نقرأ ساعتها ما يحدث في القاهرة على أنه محاولة للترويض تحت مسمى التوحيد.