أخر الأخبار
العاصمة روح وذاكرة ولا تقبل الاستبدال
العاصمة روح وذاكرة ولا تقبل الاستبدال

نادرة هي البلدان التي تحتفظ بعاصمتين، وان كان التقسيم الوظيفي يخلق بالعادة ما يُشبه العاصمتين او اكثر، فثمة عاصمة اقتصادية وثانية سياسية وهناك عواصم سياحية، وهناك عواصم تغولت فحملت اسم البلد نفسه، فكثير من المصريين اطلق على القاهرة اسم مصر، وكثيرا ما سمعنا اهالي الارياف والمحافظات في الافلام يصفون زيارتهم الى القاهرة بقولهم، حنزور مصر او ذاهبون الى مصر او يتدلون الى مصر باللهجة الصعيدية، وكذلك فعلت دمشق بأهل الشام، حين كانوا يعلنون زيارتهم للشام كناية عن العاصمة دمشق، وحفظت دمشق الياسمين لنفسها، وكذلك النارنج، فالعواصم تطغى على باقي المدن والمحافظات، فتصبح حلما يداعب احلام سكان الامصار والتخوم او الاطراف.

في الاردن ثمة مفارقة من نوع خاص، او مفارقة لها ذائقة مختلفة واقرب الى الفرادة، فرغم تنازع العاصمة بين السلط وعمان قديما، قبل ان تحسمها عمان بسرعة وقبول سلطي كريم بذلك، بقي في الوجدان الاردني مفهوم العاصمتين، الروحية والسياسية، ولا أظن بلدا عرف مثل هذه المفارقة، فالقدس مدينة العشق الأزلي حافظت على قدسيتها كعاصمة روحية للاردنيين وعمان الحبيبة عاصمة سياسية فالاذاعة مثلا كانت تبث من القدس وعمان، والاذاعة لمن لا يعرف كانت عنوان الدولة وسيادتها وكان نجاح السلطة وفشل الانقلاب مربوط بالسيطرة على الاذاعة فهي عنوان الدولة ولسانها، وكذلك النقابات المهنية حافظت على فروعها في القدس حتى اللحظة ورئيس فرع القدس حكما هو عضو في مجلس النقابة.

العواصم عناوين لا تأتي بقرار، فكلنا نعرف تونس العاصمة التي تفردت عربيا بحملها اسم البلد نفسه، وعالميا ما زلنا نقول دلهي عاصمة الهند دون ذكر نيو دلهي، وكلنا موقن برسوخ ان ريودو جانيورو هي عاصمة البرازيل وليست برازيليا، فالعواصم وتشاطرها المدن الدهرية تحمل رائحة فريدة تتميز بها، او لها صوت ستسمعه اذا اصغيت كما يقول الشاعر مريد البرغوثي في قصيدته عن القدس، ولذلك نحفظ ودّ دمشق وبغداد والقاهرة في عمان والقدس، وتجرحنا جراح هذه العواصم بأكثر من غيرها، فالمدن تحافظ على مذاقاتها وروائحها، ولا تحتاج الى قرار اداري او سياسي، وحتى الاحياء احيانا تحافظ على ديمومتها وحضورها، فهما ارتقت عبدون لن تكون اللويبدة ومهما حاولت الصويفية فلن تكسر بهجة الرينبو وقاع المدينة.

اليوم ونحن على اعتاب عاصمة ادارية جديدة، نحاول قراءة القرار ليس بعين الكلفة الاقتصادية والجدوى، لكن بعين ابن المدينة العتيقة من اول القلعة الى درج الشابسوغ والسيل الموؤود، هل ستحمل المدينة الجديدة ذائقتنا، ام انها مجرد مشروع استثماري لن يحمل بعض روحنا، فمن اين له سبيل الحوريات ومدرجنا الروماني، ومن سيمنحها عراقة السوق ورائحة الهيل وصوفية البخارية ودرج خرفان وبهاء فيصل، سيكون مجديا اكثر لو كان المشروع مجمّعا للدوائر او امتدادا طبيعيا للعاصمة بأدواتها الرسمية ولكن دون منح المشروع اسم عمان الجديدة او العاصمة الادارية، فنحن لنا عاصمتنا وكلما اوغل الجديد في الحداثة والتغريب كلما اوغلنا في عشق وسط المدينة وقاعها، والجيل الجديد الذي ارهقته الحداثة والموضة والصرعات وجد نفسه في وسط المدينة مجددا فهو لم يقبل انقطاع جذره او قطعه فعاد البهاء للرينبو والويبدة ووسط البلد.