أخر الأخبار
غزة في حياتها المُضنية
غزة في حياتها المُضنية

سجلت غزة وقفتها الاحتجاجية على تفاقم بؤسها، وطيّرت رسالتها ممهورة بتوقيع القطاع الخاص، بينما لا قطاعات أخرى سواه. فهو حاضنة الاقتصاد الاجتماعي ورحى دورانه من الناس واليهم. فالقطاعات العامة انقطعت عن غزة التي تُركت وحيدة، يحل فيها القطاع الخاص مقيماً دائماً، وتغشاها جمعيات خيرية تنوء بإعباء المشهد الكارثي المزري. فكأنما الحصار والإقصاء، جاءا استجابة من قبل الضالين، للمقولة التوراتية:"وستكونين يا غزة، متروكةً من وجه الرب"!

 إن ما يحيق اليوم بغزة، بمفاعيل خنق الحياة وإدقاع الناس، إنما هو امتداد  للمجازر بطائرات العدو ومدفعيته ودسائسه، وهذا كله يجعلنا على  قناعة بأن ما يجري هو جزء من مخطط، ينفذ بأدوات محلية وأخرى استعمارية، موصولة الحلقات، في سياق تسلط البشر على البشر، وخيانه الحثالات لقضايا شعوبها، إذ يجرح الظالمون، في السياق، الأرواح والكرامات والأوطان والطفولة والشيخوخة ومهاجع نوم الآمنين!

غير أن الأحبار اليهود، الذين دونوا الهرطقات، وانتحلوا تمثيل رب العالمين، ليسوا إلا موالي الشيطان، وقلم الباطل لا قلم الحق، وهم الذين خاصموا غزة منذ الأزل، بينما غزة لم تنم على بؤسها، ولم تيأس ولم تكفر بقوة الله الحق الصمد. ولعلها الآن، بكل عذاباتها، تدق الأجراس، لكي يصحو النائم ويتحسس المتخاذل رأسه، ولكي ينام الظالم على وسادة القلق الوجودي والذعر الأبدي والعار المقيم!

تدفع غزة اليوم، ثمن جبن وخسة المتخاذين والواهمين، ومعه ثمن ضآلة وخواء وخيبة المُنقَلب عليهم فيها والمنقلبون، ومن يتفرجون على المحنة المُضنية، وأولئك الذين لا يتحسسون ثقل أوطانهم ولا تاريخ أمتهم، ثم إن الأمم الكبرى والنافذة، التي تغاضت عن  واجبات أدوارها، تتحمل مسؤولية جسيمة ويلحقها العار. أما المحتلون المجرمون، اصل البلاء، فإنهم يكثفون  الآن، جهودهم لكي تظل غزة تحتضر وإن لم تمت ولن تموت.

في واقع الحصار، يتبجح أشد وزراء العدو تطرفاً، ويقول إنه مفتاح معبر رفح، فلا يُجيبه ولا يُخرسه الُمغلقون والمحرضون على الإغلاق. وفي حكاية المصالحة، قرينة الإنفراجة في المقاربات النظرية؛ أصبحت المسألة لعبة، أو عملاً مسرحياً مُلغَزاً، يُدلي كل لسان برأيه فيها أو  فيه، تدويخاً للناس واستهلاكاً للوقت، وكأن تحييد الناس وإعطائها حقوقها أمر معقد، يجهله المشتغلون في السياسة والمتصدرون في العمل العام. وفي التفصيل، كأن أنين المريض، وتضوُّر الفقير، وعطالة الشاب الخريج والحرفي، وانهيار المشفى، وتلوث البيئة وشُح المياه وانقطاع الكهرباء، وتعليق العدالة، هي كلها ميادين للحرب في السياسة الداخلية، أو وسائل فعالة للإخضاع، يلجأ اليها الشقيق في خصومته، والعدو في صراعه مع أصحاب القضية العادلة!

إن ما يتعرض له سكان قطاع غزة، يشطب إنسانية الضالعين في صُنعه، ومن شأنه أن يرتد عليهم، لأن هكذا أوضاع اجتماعية اقتصادية، تُنتج التطرف، ومعلوم أن قوانين الحرب، تنبه الضالعين فيها الى خطورة اليأس، ويُقال للجنود، لا تستمروا في مطاردة عدو يائس، لأن ورقته الأخيرة، التي تدفعه الى فعلته الأخيرة، هي شجاعة اليأس نفسه!    

لك المجد يا مدن غزة وقراها ومخيماتها الصابرة. لك المجد يا جنين والقدس والخليل. لك المجد والأمل الأقصى يا عكا، ويا يافا عروس البحر. إننا باقون هنا، على هذه الأرض. لم ينته التاريخ، ولن ينتهي الصراع. إن هذا هو ما تشبعت به غزة على الرغم من حياتها المُضنية، وتدركه وستظل عليه، فلا سلام سوى سلام القدس، وللقدس سلام آتٍ!