أخر الأخبار
إنقاذ غزة أولاً
إنقاذ غزة أولاً

نفذ الوقود وتوقفت الخدمات الصحية في مستشفى بيت حانون، وتوقف العمل في مستشفى الدرة، وسيتوقف العمل في المستشفيات الأخرى في الساعات أو الأيام القادمة إذا لم يتوفر الوقود. توقف عمل المستشفيات جاء كذروة الأزمة الطاحنة التي يعاني منها السواد الأعظم من الشعب في قطاع غزة، والتي هي مجموع أزمات كأزمة عمل أوصلت نسبة البطالة إلى 50%، وهي نسبة ترتفع كل يوم بفعل طرد عشرات العمال من الشركات التجارية، وأزمة الكهرباء - نسبة قطع التيار تصل إلى 18- 20 ساعة يومياً، وأزمة مياه عنوانها ندرة المياه الصالحة للشرب، وأزمة الصرف الصحي المنتجة للأوبئة والأمراض، وأزمة السيولة النقدية – 100 ألف شيك وصلت البنوك دون رصيد - وانقطاع الرواتب لـ 45 ألف موظف تابعين لسلطة "حماس"، وتخفيض رواتب كل موظفي السلطة من قطاع غزة. وليس لدى المواطنين في القطاع أموال لشراء قوتهم اليومي ونظراً لذلك تقلص عدد الشاحنات القادمة من معبر كرم أبو سالم إلى أقل من النصف. أكثر من نصف السكان بحاجة إلى مساعدة غذائية، لكن برنامج الغذاء تأثر وسيتأثر بعد تخفيض الدعم الأميركي لوكالة الغوث (الأونروا) إلى النصف.

هذا الوضع المأساوي له أسباب كثيرة ومتسببون كثر، كإغلاق معبر رفح بنسبة تفوق 90% من أيام السنة، وقد مضى أكثر من شهرين على إغلاقه إغلاقاً تاماً بالترافق مع تسلم السلطة للمعبر. وكالحصار الإسرائيلي الدائم والمترافق مع وضع شروط مشددة على المواد الأساسية والأجهزة وغير ذلك. وكذلك إجراءات حكومة الوفاق، وموقف منظمة التحرير غير المبالي، وقطع المساعدات الأميركية عن الأونروا، وسياسات ومواقف حركة "حماس" الفئوية والاستخدامية، والموقف العربي الرسمي الذي لا يضيره سقوط قطاع غزة في الهاوية، والموقف الدولي الملتزم بالشروط الإسرائيلية لكنه لا يتوقف عند مشكلة فقدان قطاع غزة لأبسط الشروط الإنسانية، وكذلك لا يمكن تبرئة المؤسسات الدولية من وصول قطاع غزة إلى هذا المستوى الكارثي. كما يرى المرء تتوفر مجموعة من الأسباب، ويتوفر كثير من المتسببين في وجود ومفاقمة الأزمات داخل قطاع غزة، مقابل ذلك لا يوجد من يقدم الحلول الجذرية أو الجزئية لوقف الأزمة أو التخفيف من تداعياتها القائمة والمحتملة.

قطاع غزة ينهار على مرأى ومسمع الجميع ولا من مجيب! وشعب غزة بدأ يقرع جدران الخزان الملتهب في صيغة احتجاجات وإضرابات وانفجارات فردية وجماعية ولا من مستجيب! كل المعطيات وتقديرات الخبراء وذوي الاختصاص تقول: إن الانهيار الشامل يقترب كل يوم وكل ساعة. وفي الوقت نفسه تنعدم المساعي لقطع الطريق على الكارثة، ولسان حال الجهات الفلسطينية المسؤولة (المنظمة والسلطة وحماس) ما قاله الشاعر امرؤ القيس: "ورضيت من الغنيمة بالإياب". كأنهم ينتظرون الانهيار ويعتقد كل طرف من الأطراف المتصارعة أنه سيلعب دور المنقذ ما بعد الانهيار، وسيقطف الثمار وحده، وسيسجل هزيمة الطرف الآخر. قال صديقي من قطاع غزة: تعتقد السلطة أن مفاقمة الأمور وصولاً إلى حالة الاختناق وعدم الاحتمال، جراء الضغوط التي تمارسها، ستؤدي إلى انفجار شعبي ضد "حماس"، وحينها ستقطف السلطة وحركة "فتح" الثمن. ويضيف: إن هذا التقدير ليس في محله، والناس هنا يشعرون بالمهانة حين تستخدم آلامهم ومعاناتهم في الصراع على السلطة"، ويتساءل، كيف للمواطنين الثقة بمن يفاقم معاناتهم ويذلهم ثم يستخدم الذل والمعاناة لتكريس سلطته؟ تقدير صديقي له ما يسنده في استطلاعات الرأي الأخيرة التي عبرت عن امتعاض أكثرية المواطنين الغزيين من هذا التكتيك الخاطئ والذي أفضى إلى نتائج عكسية.

وموقف المنظمة من موقعها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني لم يتميز عن موقف السلطة وحكومة الوفاق، ولا يكاد يرتفع صوتها للدفاع عن الغزيين ولا تبحث عن حلول تقطع الطريق على انهيار قطاع غزة. كأن المنظمة تحولت إلى ملحق للسلطة وليس إلى مسؤول ومشرف عليها وإلى ضابط لمواقفها وسياساتها. إن أداء المنظمة في كل ما يتصل بأزمات قطاع غزة لا يتناسب إطلاقاً مع مسؤوليتها الاعتبارية والرسمية ولا مع دورها الافتراضي. على الأقل، مطلوب حضور سياسي وإعلامي فاعل وبَنّاء من اللجنة التنفيذية ومن أعضائها.

وتعتقد حركة "حماس" أن الأوضاع المأساوية للغزيين ستقود إلى انفجار شعبي ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي، وثمة بوادر لذلك في التصادم بين مجموعات من الشباب وقوات الاحتلال على بعض خطوط التماس، وتعتقد "حماس" أنها تملك ورقة للتفجير الأمني والمقامرة بالقطاع بالإفادة من الصراع الإقليمي واستعداد إيران للدعم، وتحميل مسؤولية الانهيار لدولة الاحتلال انطلاقاً من شعار" علي وعلى أعدائي". وتقطف حماس راهناً ثمار تكتيك السلطة الخاطئ الذي استعدى الغزيين، وبهذا فإن ما يهم حركة حماس ليس قطع الطريق على الانهيار بل الإفادة منه وتوظيفه لمصلحتها الفئوية الضيقة.

قد لا يكون الوقت راهناً وفي المدى القريب لمصلحة الدور الفلسطيني، فإذا لم يكن هناك تدخل فلسطيني بمستوى المسؤولية الوطنية والأخلاقية تجاه قطاع غزة، تدخل يقطع الطريق على الانهيار وينقذ قطاع غزة ومواطنيه من المعاناة والظلم، فإن الأطراف الأخرى ستتدخل وستستخدم الانهيار والأزمات لتمرير "صفقة القرن". أغلب الاعتقاد أن ما يتعرض له قطاع غزة من تشديد الحصار وثيق الصلة بمشروع تصفية القضية الفلسطينية الذي تقدمه إدارة ترامب وتشرف على تنفيذه بمعاونة حلفاء في الإقليم. ويلاحظ أن محاولات التغلب على الرفض الفلسطيني قد بدأت في أكثر من مجال واتجاه. فقد بدأت ماكينات الضغوط والعقوبات والترهيب والإغراء في محاولة محمومة لتطويع القيادة الفلسطينية أو اختراق البنية الفلسطينية بأتباع للأميركان.

تتفق النخب السياسية والمؤسسات الفلسطينية على ضرورة إعادة بناء البيت الفلسطيني الذي يشكل ضمانة للصمود ولدرء مخاطر التصفية. لكن الاتفاق المعبر عنه في مجموعة اتفاقات ظل دون تطبيق. مؤكداً عجز البنيات الرسمية في إعادة البناء وترميمه طوال الفترات السابقة. غير أن التدخلات الخارجية تحاول استثمار عجز البنية وانفصالها المتمادي عن جمهورها، بخلق بنية جديدة تابعة بالكامل ومستجيبة بالكامل لإملاءات صفقة القرن. العجز كما نرى يشجع على التدخل وعلى خلق بديل. والخروج من حالة العجز عبر تغييرات على مقاس المصلحة الوطنية وحاجات الشعب المعيشية والإنسانية يقطع الطريق على البدائل التي تشكل غطاء لتصفية القضية الفلسطينية. الخروج يبدأ بإنقاذ قطاع غزة من الانهيار، وبتفعيل دوره في معركة الدفاع عن الوطن الفلسطيني.