أخر الأخبار
في غياب الأولويات الفلسطينية
في غياب الأولويات الفلسطينية

لم ينته الفلسطينيون بعد من حملتهم لمواجهة القرار الأميركي بشأن القدس، حتى فتحت الإدارة الأميركية معركة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا»، والتي تتعلق أساساً بملف حق الفلسطينيين في العودة بحسب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لعام 1949. الإدارة الأميركية بدأت خطوتها الأولى لشطب الأونروا حين قلصت مساهمتها في ميزانية الوكالة بمقدار ستين مليون دولار، الأمر الذي رحبت به إسرائيل وطالبت بالاستعجال في شطب الوكالة لأن تنفيذ حق العودة يعني شطب الدولة العبرية، ومرة أخرى يجد المجتمع الدولي نفسه أمام المخاطر التي تتصل بالقرار الأميركي، ذلك أن الأونروا بالكاد تستطيع تلبية الحد الأدنى من احتياجات اللاجئين الفلسطينيين قبل أن تتخذ الإدارة الأميركية قرارها الأخير، وكانت الأونروا قد خضعت لابتزاز منهجي منظم، كان يستهدف كل الوقت إحالة ملف اللاجئين الفلسطينيين إلى المفوضية العليا للاجئين، ولذلك فإن الفارق كان يتسع شيئاً فشيئاً بين ما كانت الوكالة تقدمه من خدمات للاجئين الفلسطينيين في ستينيات القرن الماضي، وبين ما تقدمه اليوم، وبالرغم من ذلك ظلت الاونروا تعبر وتشهد على خصوصية حق الفلسطينيين في العودة، وشاهدا حيا على المسؤولية الدولية عن تهجير الفلسطينيين من أرض وطنهم عام 1948.

الدول المانحة عقدت يوم أمس، اجتماعاً في بروكسل حضره رئيس الحكومة الفلسطينية، والوزير تساحي هنغبي، ومبعوث البيت الأبيض غرينبلات بالاضافة إلى الدول الأوروبية، ودولتين عربيتين هما مصر والأردن للبحث في تمويل الاونروا والسلطة. عدد من الدول الأوروبية من بينها بلجيكا وبريطانيا وهولندا أعلنت أنها ستعجل في تقديم مساهماتها المعتادة للأونروا، واليابان هي الدولة الوحيدة التي أعلنت أنها ستزيد مساهماتها للمنظمة الدولية.

في الواقع فإن أوروبا لا تزال تتمسك بعملية السلام على أساس رؤية الدولتين، ومن هذا المنطلق عارضت القرار الأميركي بشأن القدس، ويترتب عليها أن تؤكد معارضتها للقرار الأميركي بشأن الاونروا، وذلك من خلال زيادة الدعم لتعويض المبلغ الذي استقطعته الولايات المتحدة والعودة للتعويض إذا أقدمت إدارة ترامب على مواصلة سياسة حجب مساهماتها.

الكل يتباكى على الوضع المأساوي الذي يتعرض له سكان قطاع غزة، ولكن الكل يساهم في تعميق هذه الكارثة. تعلن إسرائيل أنها بصدد تخصيص مليار دولار كاستثمارات، في مجال الطاقة والبيئة والمياه في قطاع غزة، لكن أحداً لا يسألها عن سياستها في محاصرة القطاع كأحد أبرز الأسباب فيما يعاني منه سكان القطاع.

المسؤول عن الخارجية الأوروبية فيديريكا موغيريني هي الأخرى تتحدث عن كارثة الوضع الإنساني في قطاع غزة، وتتحدث عن الحاجة لتخفيف معاناة السكان هناك، لكنها هي الأخرى مسؤولة عن تقليص الدعم الذي كان يذهب للمؤسسات الدولية ومنظمات المجتمع المدني في القطاع. الفلسطينيون هم الوحيدون الذين لا يتحدثون عن الكارثة الإنسانية التي يتعرض لها سكان القطاع، فبدلاً من أن تتحمل السلطة مسؤولياتها، في اطار تسريع المصالحة الفلسطينية، تبادر إلى إعادة الضريبة المضافة بمقدار 16%، الأمر الذي سيضاعف معانيات الناس، ويقتل ما تبقى من قدرات شرائية لدى بعض الفئات.

تغيب عن كل هذا المشهد الدول العربية، التي تستطيع من أطراف جيوبها تعويض العجز في موازنة الأونروا، الأمر الذي يفرض على وزراء الخارجية العرب الذين سيجتمعون قريباً، اتخاذ قرارات ذات طبيعة عملية ملموسة، لحماية الحقوق الفلسطينية إذ لم يعد ثمة أي مجال للمناورة أو التردد.

إذا كان على العرب أن لا يستمروا في سياسة المناورة والتردد والاكتفاء بإصدار البيانات، فإن الأصل هو أن يغادر الفلسطينيون هذا المنطق وأن لا يستمعوا لما يصدر عن واشنطن من وعود كاذبة وأضاليل مفضوحة. المبعوث الأميركي لعملية السلام غرينبلات، يقول إن ترامب لم يرسم الحدود النهائية للحل السياسي، وان كل شيء مفتوح على النقاش، ويؤكد الحاجة للعودة إلى طاولة المفاوضات، لكن رئيس الإدارة يعود ويكرر بالفم الملآن أن قراره بشأن القدس ونقل السفارة إليها خلال عام، يتسم بالطابع التاريخي ويصادق على واقع الحال.

جريدة «لوفيغارو» الفرنسية نقلت عن لقاء جرى مع وزير الخارجية الفرنسية الأفكار الأميركية بشأن التسوية، فأشارت إلى أن الخطوة الأولى الاعتراف بدولة فلسطينية على نحو 40% من الضفة وعاصمتها أبو ديس، ثم بعد ذلك تقرر المفاوضات ما تبقى.

الأمور أكثر من واضحة، فإذا كان ترامب يعلن أن القدس قد أزيحت عن طاولة المفاوضات، وهو يعمل فعلياً على شطب الأونروا كمقدمة لشطب حق الفلسطينيين في العودة، فإنه بذلك لا يقصي الولايات المتحدة فقط وإنما يقصي كل نهج البحث عن السلام من خلال المفاوضات.

لا يجوز للفلسطينيين إذن أن ينتظروا شيئاً من الولايات المتحدة ولا أن يتركوا لها المزيد من الوقت، لكي تستثمره إسرائيل في مصادرة المزيد من الحقوق الفلسطينية وتوسيع انفتاحها على الدول العربية، التي تنتظر بفارغ الصبر، زوال أو تراخي الفيتو الفلسطيني.

يقضي ذلك حكماً أن لا يتأخر الفلسطينيون في إنجاز المصالحة قبل أن تفلت الأمور، وتتجه نحو خيارات أخرى، تعيد كل ملف المصالحة إلى الصفر. قد لا تتجه حماس نحو تصعيد الموقف مع إسرائيل لأسباب وجيهة، ولكنها قد تعود وتفكر في تنشيط خيار العلاقة مع النائب دحلان وتياره، وهذه المرة بتحسين علاقاتها مع عدد من دول الخليج العربي. وإذا كان من غير المتوقع أن ينفجر الوضع في قطاع غزة، فإن الحال من غير الممكن أن يبقى على حاله، فإذا تخلت السلطة عن مسؤولياتها فإن حماس التي تسيطر على القطاع، لا تستطيع التهرب من مسؤولياتها. وعدا عن ذلك فإن منظمة التحرير والسلطة معنيتان بالبدء بتنفيذ قرار المجلس المركزي الفلسطيني، وإلاّ فإن أزمة الثقة بين الفلسطينيين ستتعمق أكثر فأكثر، فضلاً عن أن استنزاف المزيد من الوقت لا يخدم إلاّ جهة واحدة، وهي إسرائيل التي لا تتوقف عن فرض المزيد من الوقائع الصعبة. يغيب الوضوح عن الأولويات الفلسطينية في حضور فجاجة الأولويات الأميركية الإسرائيلية.