أخر الأخبار
لا تحمل الشيء و نقيضه
لا تحمل الشيء و نقيضه

من يناضل للتحلي بمنظومة من القيم السامية و المبادىء النبيلة و القناعات السياسية و المعتقدات التنظيمية ويحملها منطلقا من وعي كامل و إرادة حقيقية يجب أن يعمل من أجلها و الدفاع عنها بكل ثقة ، و في نفس الوقت عليه إحترام قناعات الأخرين و معتقداتهم ، ليس هذا فحسب بل تهيئة الأجواء بأقصى قدر من الحرية لممارساتها و إن إختلفت معها و تناقضت مع ما تؤمن به من منظومة قيمية شاملة ، هذا المنهج الراقي لا يمكن أن يبقى في إطار الشعار فقط ، أو أن تطالب به لنفسك و تحرمه على غيرك ، أوتضع له مقاييس خاصة تتناسب مع مصالحك و توجهاتك ، بينما يصبح خطيئة إذا جاء في موقع المختلف تستحق العقاب و الإرهاب و الملاحقة المادية و المعنوية ، إذ أن الأنسان لا يجوز أن يؤمن بالشيء و نقيضه في ذات الوقت ، أن تكون ديمقراطي عندما يروق لك الأمر و تتحول إلى ممارسة الإرهاب الفكري و المادي عندما يختلف معك الآخرون خاصة إذا كنت في موقع المسؤولية و تمتلك أدوات السلطة و القرار بغض النظر عن مستوى القوة و النفوذ و التأثير .

قد أختلف معك في الراي ولكني مستعد ان ادفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك ... هذا ما قاله الفيلسوف الفرنسي فولتير ... في زمن الفضاء المفتوح و إتساع المساحات التعبيرية عن الأراء و الأفكار على إختلافها ، فإن حرية الرأي و التعبير تحتل أهمية بالغة ليس على مستوى الجماعات و الأحزاب و الحركات السياسية و الفكرية المختلفة بل على صعيد المواطن الفرد أيضا ، غير أن هناك محددات لهذه الحرية في الثقافة و الوعي و ترجمتها إلى سلوك و ممارسة إيجابية فكما أن " السلطة المطلقة مفسدة مطلقة فإن الحرية المطلقة أيضا مفسدة مطلقة "، لذلك يأتي تعريف حدود الحرية الفردية على كل المستويات بأنها تنتهي عندما تبدأ حرية الأخرين .

إن إستخدام أساليب القدح و الذم و التشهير و التعهير و التكفير و التخوين لا يمكن إعتباره كجزء من حرية الرأي و التعبير في كل الأعراف و المواثيق الدولية و الانسانية ( الوضعية و السماوية ) ، وهي مسائل لا يجوز الإلتفاف أو التحايل عليها تحت شعارات الحرية الفضفاضة ، بل تقع في خانة الجريمة القانونية و الأخلاقية نظرا لما تحمله من أثار على الفرد و المجتمع ، و عند الحديث في هذا الشأن بخطورته عليك أن تمتلك كل الأدلة الثبوتية اللازمة التي يعززها أحكام قضائية باتة تقطع الشك باليقين ، أما إستسهال رجم الأخرين بالباطل في ظل غياب الضوابط القانونية و الأخلاقية و الإفتقار للحد الأدنى من عوامل الردع الذاتي فهي كارثة ، وقد أتاحت منصات الأعلام الجديد و وسائل التواصل الإجتماعي على الشبكة العنكبوتية و الفضاء الإلكتروني مساحة بلا حدود للكثيرين توجيه سهام التشهير و التعهير و التكفير و التخوين بلا حساب و دون أدنى مسؤولية ، بل تجري عمليات تجييش و تجنيد واسعة للأنصار و المريدين للقيام بهذا الدور الممنهج لتشويه سمعة الآخرين في ظل الصراعات السياسية و الفكرية القائمة على غير صعيد ، ليس هذا فقط بل تطورت الأمور إلى مستوى إنشاء شركات متخصصة و تجنيد خبراء من المحترفين في المجالين المهني و التقني و حشد الموازنات المالية الضخمة بهدف ( تشويه الخصوم و المعارضين ) .

لا يمكن أن تكون ديمقراطي بينما تسكن في دواخلك عفاريت الدكتاتورية و الفردية و حب التسلط و القمع وعدم القدرة على تحمل النقد و إستيعاب الرأي الأخر و اللجوء إلى ممارسة الإرهاب المادي و المعنوي بحق كل من يختلف معك ، كما أنك لايمكن أن تكون إصلاحي و ليبرالي في الفهم و الممارسة و القناعة فيما أنت واقع في نفس الرزايا التي تنادي بالتصدي للتخلص منها و إصلاح الحال ، فلا يجوز أيضا أن تقاتل ضد منهج الإقصاء و الشطب و الإلغاء و تقع في ذات الشرك ، أو بشكل عام تدعو لمحاربة الظواهر السلبية و تحريمها و في نفس الوقت تعتبرها حلالا زلالا عليك ، كما أن ممارسة النقد ليست حالة من الترف أو بهدف التصيد في المياه العكرة و إلا فإنها تتحول إلى سلوك سلبي مرفوض و مشين يضع صاحبه في موضع الشبهة و الريبة ، مثله كمثل من يتصدى للدفاع عن الخطايا و الفساد و سوء الإدارة و يخترع لها المبررات و الذرائع لغاية في نفس يعقوب ، و هؤلاء المفسدون أشد خطرا على المجتمعات من الفاسدين أنفسهم .

من المتعارف عليه في الحياة العامة أن القيم المجتمعية يحميها القانون أو الأعراف و التقاليد السائدة ، أما في التكتلات السياسية و التنظيمية هناك لوائح و أنظمة داخلية تأخذ الجانب أو الشكل التنظيمي لإدارة شؤونها في إطار منظومات خاصة من الأصول و المبادىء القيمية التي تحقق أهداف تلك الجماعة و تحمي حقوق أعضائها و تحدد واجباتهم كل في موقعه و تضع المعايير اللازمة لتنظيم الحياة الفكرية و السياسية و التنظيمية بداخلها ، و ترتكز بذلك على منظومة قيمية ثابتة من الضوابط و المحددات تعبر عنها تعتمد الثواب و العقاب كقاعدة أصيلة في التقييم و التقويم ، مما يجعل هذه المنظومات القيمية دوما بحاجة إلى سياج مانع من الإجراءات و العقوبات التي تفرض بحق المخالفين لها دون تمييز بما يضمن لها الصمود و التطور الإيجابي في إنعكاساتها و آثارها في تحقيق الأهداف المرجوة و منع الشوائب السلبية من التسلل إلى داخلها أو إختراقها أو إحباطها .

إن أي منظومة للقيم الإيجابية التي يسعى الإنسان إلى تكريسها و تجسيدها في حياته على المستويين الخاص و العام يجب أن تتسم بالصفاء و الوضوح و المصداقية التي تؤكدها الممارسة العملية و الفكرية ، فهي لا تحتمل أن تحمل الشيء و نقيضه .