أخر الأخبار
كيف سيصبح المجلس الوطني أداة تطبيق “صفقة القرن”؟
كيف سيصبح المجلس الوطني أداة تطبيق “صفقة القرن”؟

ظل المجلس الوطني الفلسطيني بمثابة "آخر القلاع" التي يتحصن بها الشعب الفلسطيني في مواجهة المخاطر التي تحدق بقضيته الوطنية، منذ ما بعد وعد بلفور وحتى يومنا هذا، وصحيح أن هذا المجلس قد تخلى عن دوره في منعطفاتٍ حاسمة، واختفى أعضاؤه عن دائرة الفعل لعقود، حتى يكاد يبدو مستحيلاً معرفة أسماء "كل" أعضائه، أو أماكن اقامتهم، أو من بقي منهم على قيد الحياة ومن ودعها إلى العالم الآخر، إلا أن "شرعية" المجلس الوطني باعتباره الوعاء الجامع للكل الفلسطيني بقيت كما هي، وظل شعار "منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" هو الشعار الذي تعتبر مخالفته "خطيئة سياسية"، ويصل التعامل مع ما سواه من شعارات إلى حد وصف من يخالف مفرداته بالخائن والمرتد عن الوطنية الفلسطينية.

بُنيت كل "الشرعيات" في فلسطين على أساس الشرعية التي تتمتع بها منظمة التحرير الفلسطينية كبيتٍ جامعٍ لكل الفلسطينيين، فمن وقع اتفاقيات أوسلو كانت منظمة التحرير، ومن أسس السلطة الفلسطينية وشكّل سقفاً لها هو منظمة التحرير، بما في ذلك رئاسة السلطة والحكومة والمجلس التشريعي وحتى السلطة القضائية التي تصدر أحكامها أحياناً بموجب القانون الثوري لمنظمة التحرير، وظلت اللجنة التنفيذية أعلى سلطة فلسطينية، وكذلك المجلس المركزي في حال انعقاده، ولكن المجلس الوطني بقي على الدوام هو "برلمان" الشعب الفلسطيني كله، حتى وإن بدا غير مكتمل في غياب قوتين مهمتين على الساحة السياسية الفلسطينية هما حركتي حماس والجهاد الإسلامي، لكنه مع كل ذلك، ما زال يبدو وكأنه البيت الجامع لكل الفلسطينيين.

يمكن القول أن السلطة الفلسطينية "ابتلعت" مؤسسات منظمة التحرير على مدى ربع قرنٍ تقريباً، و"أجهزت" على دوائر منظمة التحرير تباعاً، من الدائرة السياسية إلى الدائرة المالية إلى غيرها من مؤسسات المنظمة، وأصبحت اجتماعات الحكومة أكثر أهمية من اجتماعات اللجنة التنفيذية، واجتماعات المجلس التشريعي أهم من اجتماعات المجلس المركزي، ودرجة "وزير" في السلطة "أرفع" من درجة عضو في اللجنة التنفيذية، بينما غاب المجلس الوطني عن المشهد بالكامل، اللهم إلا دعوته السريعة عام 1996 بقصد "مجاملة" الرئيس الأميركي بيل كلينتون، والإعلان عن شطب مواد من الميثاق الوطني تدعو إلى زوال دولة الاحتلال.

سعت قيادة السلطة الفلسطينية في سنوات الانقسام إلى "إعادة الاعتبار" لمنظمة التحرير في بعض الجوانب التي وجدت فيها حاجة ماسة إلى "شرعنة" قراراتها، ودرجت على توظيف مؤسسات المنظمة كلما عنّ لها أن تتخذ قراراً أو تلوّح باتخاذه، وبمرور الوقت، ومع كثرة القرارات التي لم يتم تنفيذها، بدت صورة هذه المؤسسات باهتة، ولم يعد الرأي العام المحلي يعيرها أدنى اهتمام، فما بالك بالرأي العام الدولي وحكومات العالم المختلفة، وبدا طيلة الوقت أن المسار الكلي لمنظومة العمل السياسي الفلسطيني متمثل في شخصٍ واحد، وهو لا يريد تحت أي ظرف أي شراكة معه في اتخاذ القرار، لا من أفراد ولا من مؤسسات ولا حتى من مجالس سواء كانت منتخبة أو مكلفة.

دفعت حركة فتح الثمن الأكبر نتيجة تعطل مؤسساتها التنظيمية عن العمل، وغاب نجم الحركة التي قادت الكفاح الفلسطيني على مدى نصف قرن، وتداعت قدرتها على الفعل، بسبب القيود السياسية التي وجدت نفسها أسيرة لها، وأصبحت أكثر تماهياً مع رؤية مؤسسات السلطة وأجهزتها، إلى الحد الذي يتم التعامل فيه مع الإنجاز على أنه "حكومي" ومع الإخفاق على أنه "فتحاوي"، وضاعت هوية الحركة بعدما توقفت حتى المراجعات والتقييم، وجسّد التجمّع الذي انعقد في المقاطعة في نهاية نوفمبر 2016، والذي أُطلق عليه اسم المؤتمر السابع، الحالة الكارثية التي وصلت لها الحركة، بحيث لم يتوقف الحضور عن التصفيق بينما تعيش القضية الوطنية أسوأ مراحلها، ودشن الحاضرون في نهاية أعمال المؤتمر مرحلةً تقوم على الفردية المطلقة واعتبار كل من يخالف هذه الفردية مارقاً ومتجنحاً وخارجاً عن الصف الفتحاوي، بل والوطني.

استمرت قيادة السلطة في إدارة الظهر لكل الدعوات المتعلقة بضرورة عقد المجلس الوطني، بعد تصويب أوضاع مشاركة كل قوى العمل الوطني فيه، ورفضت على مدى سنوات عقد الإطار القيادي لمنظمة التحرير، أو العمل الجاد من خلال لجنة تحضيرية تضع جدول الأعمال وتحدد شكل المشاركات ومضمونها، وغاب المجلس الوطني حيثما كان يتوجب عليه أن يحضر، سواء عندما وقع الانقسام، وعندما شنت إسرائيل حروبها على غزة، وعندما بدأت محاولة تصفية القضية الوطنية، ولم يقم هذا المجلس بواجباته التي تتعلق بمصير كل الفلسطينيين، بينما جاءت الدعوة هذه المرة لانعقاده بهدف تمرير "توريث" جديد، توريث "الخروج الآمن" لقيادة لن تجد ما تعلنه من إنجازات، سوى أنها تمكنت من البقاء في الحكم لسنوات بينما دفع الشعب الفلسطيني الثمن الباهظ، وكانت الإنجازات المتحققة واقعاً ملموساً تساوي صفراً كبيراً.

تأتي الدعوة لعقد المجلس الوطني هذه المرة، بينما لم تجتمع اللجنة التحضيرية لجلسته سوى مرة واحدة في بيروت منذ نحو عامٍ ونيف، ولم ينعقد الإطار القيادي لمنظمة التحرير، ولم تتكرس المصالحة الوطنية واقعاً، وبقيت غزة محاصرة والعقوبات تنهال عليه من طرف السلطة الفلسطينية، ولم يتم التوافق على شكل ومضمون تمثيل حركتي حماس والجهاد الإسلامي من حيث العضوية ومن حيث محتوى البرنامج السياسي، وفي ظل استعداد أميركي للإعلان عن رؤية يتم بموجبها تصفية القضية الفلسطينية باسم "صفقة القرن"، وكل ما رشح أو يرشح عنها يؤكد أنها محاولة "تصفية" وليس "تسوية" للصراع القائم على الأرض، وهذا يعني أنه باستبعاد غزة من المشهد، ليس بالمعنى الجغرافي فهناك أعضاء في المجلس الوطني من قطاع غزة من غير المنتمين لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وإنما بالمعنى الدلالي، حيث تتركز قوة الفعل لهاتين الحركتين في القطاع، وفي الوقت الذي تسعى فيه قيادة السلطة لانتقال المسميات في إطار المنظمة خلال أعمال هذا المؤتمر الذي سينعقد تحت حراب المحتل، بشكل يسمح لإسرائيل وحدها أن تقرر لمن تعطي الإذن بالوصول إلى رام الله ومن لا تعطيه هذا الإذن، فإن قطاع غزة لن يكون في دائرة وبؤرة الاهتمام والتركيز، وستكون حركتا حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما ممن سيتم استبعاده من الدعوة للمشاركة في أعمال هذا المؤتمر، مدعوون جميعاً إلى البحث عن بدائل "موازية" أو "مساوية" أو "متفوقة" في شرعيتها على المؤتمر المزمع عقده، بطريقة تدعو للتساؤل: هل كل هذا يتم ترتيبه بعيداً عن "صفقة القرن"؟، وهل "إزاحة" كل المعارضين المتوقعين من الطريق بدعوى "شرعية المنظمة" يعني أن المجلس الوطني يمثل "الكل" الفلسطيني؟، وهل إتاحة المجال أمام الفاعلين السياسيين أن ينظموا أنفسهم في إطار مختلف عن الإطار الذي تستعد قيادة السلطة لترتيبه يعني بقاء شرعياتٍ فلسطينية؟، كل هذه التساؤلات تبدو مشروعة، في ظل اعتراف قادة السلطة أنفسهم بأنهم لا يحكمون في الضفة الغربية وأن قطاع غزة خارج سلطتهم وأن القدس باتت، باعتراف ترامب وإجراءات حكومة الاحتلال خارج السياق الفلسطيني، اللهم ما عدا الشعارات التي يطلقها هؤلاء عن أبدية القدس كعاصمة للفلسطينيين، وبالتالي فلا شرعية لرئاسة انتهت ولايتها القانونية منذ حين ومن غير الواضح أنها تتطلع لتجديد ثقة الجمهور بها عبر صندوق الاقتراع، أو حكومة لم تحظى بمصادقة المجلس التشريعي عليها، وحتى المجلس التشريعي المنتخب لم يتم تفعيله على مدى سنوات الانقسام، وبقيت فقط شرعية المجلس الوطني كممثلٍ جامعٍ للفلسطينيين في حال تصويب أوضاعه، وهنا يأتي انعقاد بكل هذا "العوار" المتعلق بشرعيته تمثيله للكل الوطني، ليكرس انفصالاً جغرافياً وسياسياً، ويُنهي حقبة "الشرعيات" في حياة الفلسطينيين، وفي حكم المؤكد أن إسرائيل ستقول بعد "انتخاب" رئيسٍ جديدٍ وأعضاء للجنة التنفيذية أن هؤلاء لا يمثلون الشعب الفلسطيني، وأن غزة خارج سلطتهم، وأنه لم يعد بالفعل هناك قيادة فلسطينية يمكن التفاوض معها، وهذا يعني البدء بفرض وقائع "صفقة القرن" على الأرض، دون اكتراثٍ لرد الفعل الفلسطيني، الذي سيبدو شكلياً في ظل هيمنة الاحتلال على كل أسباب القوة، وانتفاء القدرة الفلسطينية على الفعل، بالمعنى السياسي والميداني، وهو أمرٌ لا يحتاج إلى عينٍ خبيرةٍ في توصيف المشهد الذي يقر به الساسة الفلسطينيون أنفسهم قبل الجمهور الفلسطيني.