أخر الأخبار
إللي ما شاف بالغربال يا يرموك
إللي ما شاف بالغربال يا يرموك

استنفذ طاقاتي كل يوم بمتابعة آخر تطورات الموت في مخيم اليرموك رغم إدراكي أن القهر الذي أشعر به والذي ينعكس في تعليقاتي وكتاباتي لن يغير من الواقع شيئا ولن يطعم طفلا جائعا. في اليرموك، طفل يبحث عن رمق حياة بين حشائش نبتت رغم البارود في الأرض وامرأة تنهار من شدة القهر، بعد أن فقدت قدرتها على تحمل أعباء الجنون المتمثل في قصف مخيم محاصر، فتغني لليرموك أغنيةً كان الفلسطينيون قد غنوها قبل حوالي ثلاثة عقود عن قهر حصار آخر وجنون قصف آخر.
ولدتُ في دمشق وكبر وعيي الوطني في أزقة شوارع أحيائها التاريخية. وكان مخيم اليرموك الذي لم أحظ بالعيش فيه عنواناً لفلسطين في نظري آنذاك وحاضناً لعنفوان ثورة تربينا على مبادئها وآمنا بمسلماتها التي تضمنت أن الرحيل الوحيد من اليرموك سيكون إلى الوطن. وعند رحيلنا من سوريا بعد الانشقاق وتداعياته الدموية، خرجنا بحقائب سفر لا غير وتركت جزءا مني هناك، في الشام. بقي المخيم في مخيلتي وذاكرتي نقياً من شوائب الرعب والملاحقة التي طاردتنا من سوريا وكان واقعه يختلف عن ذلك المهيمن على سوريا - لأن اليرموك لا يرتبط بالزمان والمكان فهو عنوان قائم بحد ذاته.
للحياة في سوريا تعقيداتها وخصوصياتها لكن أهم خصوصية هي أنك تعيش في الظل الثقيل لثالوث الحكم في النظام الأسدي للأب الراحل والابن من بعده وهو تقديس الأسد، وتواجد عيون مخبريه في كل مكان والخطاب الخشبي المزاود عن مقاومة وممانعة لا تحصل إلا بدماء الآخرين، وبالأخص اللبنانيون والفلسطينيون.

هناك انفصامٌ يميّز الحياة في سوريا، فمن جهة هناك الشعب السوري الطيب المعطاء والكريم الذي جسّد الأخوّة والمحبة في علاقته بنا كفلسطينيين، لأنه يؤمن بمبدأ العروبة ممارسةً لا شعاراتٍ سياسية تُخطّ على الجدران وتصدح على الميكروفونات لإغراق صوت الآخر. ومن جهة أخرى، هناك نظام بوليسي لا يرحم، ويربي جيلاً بعد جيل ليؤمن بمقولة أن للجدران آذانا وأن الحديث مسموحٌ طالما كان مسموحاً وكفرٌ طالما اعتبره الزعيم "الخالد" ونظامه كذلك، وأن اختفاء الإنسان في غياهب أقبية سجون النظام أصعب من الموت لأن للموت مرارة قاطعة وعنوانا في المقبرة أما الاختفاء فهو رحلة معاناة تمتد لعقود ويمكن أن لا تنتهي ويمنع خلالها على الأحبة السؤال عن من فقدوا لأنهم ببساطة يصبحون رهينة الإنكار واللا-وجود فلا حزن ولا وداع ولا معرفة بل قهر وظلم مكتوم.
أذكر تماماً كيف كنا نسترق السمع لنشرات الأخبار غير السورية لنعلم آخر أخبار تطورات الموت والحصار الذي أُحكم على مخيمات اللجوء برعاية النظام الأسدي والتنظيمات الفلسطينية واللبنانية التي تأتمر بأمره. كنا نسمع حكايات الجوع والقهر دون أن نجرؤ على التفكير بالحديث عن تلك الكارثة التي امتدت لسنتين لأن الحديث عن ضحايا بطش النظام محظور حد الإنكار والدليل كان واضحاً في نشرات الأخبار التي يخطها جهابذة الأمن في دمشق، التي كانت تخوّن القيادة الوطنية الفلسطينية وتتحدث عن بطولات وهمية في مقاومة مزعومة بينما الحرب على المخيمات تغيب عن الشاشة وكأنها لم تكن.
لم أفكر للحظة أنني سأواجه أسئلة كنت قد وجهتها لأمي، اسئلة من ابني بعد كل هذه السنوات وهذه المرة حول اليرموك... كنت اسأل أمي عن أسماء الفصائل التي تتردد في الحديث عن حرب المخيمات وأتساءل عن دور السوريين وكيف للجيش السوري أن يكون له دور في هذه الفاجعة وهو الذي يتغنى دائماً بفلسطين وألح بالسؤال عن الفلسطينيين الذين تورطوا في قتل أبناء شعبهم. لا تفقد والدتي الحجة أو القدرة على التعبير لكن أسئلتي تلك كانت تستدعي الصمت منها أكثر ما تتسبب بالكلام. اليوم، وبعد أن وجه ابني لي ذات الأسئلة وعن ذات الجهات، شعرت بقسوة الأسئلة تلك على أم لا تريد لطفلها أن يواجه خيبة الأمل مبكرا.

لا يهمني اليوم الحصول على إجابة قاطعة عن السؤال المهم: من المسؤول عن حصار مخيم اليرموك ومن يستخدم الجوع سلاحا ضد أهله الكرام. لن أسمح لمتاهات الواقع المعقد عن سابق إصرار أن يحيد المشاعر التي تحتل قلبي وتمزقه قهراً. لا تهمني التسميات ولا تهمني الأجندات فكل متورط بسلاح أو كلمة نفاق مجرم بنظري.
أهلنا في اليرموك أعلنوا موقفهم بصراحة وشجاعة، فلا هم يقبلون من اتخذوا منهم درعا بشريا ولا هم يعفون من يحاصرهم ويجوعهم ويقتلهم من المسؤولية الأخلاقية والقانونية، خاصة أن الجبهة التي تحاصرهم هي خليط من أبناء جلدتهم ومن يتغنون بقضيتهم نفاقاً وتستراً على تاريخ طويل من جرائم بحقهم.
دفتر الحساب في هذا الملف طويل وحكاية اليرموك حلقة في سلسلة طويلة من الجرائم يطول الحديث عنها ويطول أكثر إحصاء الألم الناتج عنها. ومن يعتقد أن المزاودات السياسية والبيانات الرنانة ستعفي جماعته من لعنة اليرموك واهم.
اليرموك بحاجة إلى وقف المزاودات التي تزيد الأمور تعقيدا والواقع مرارة ولن تدخل خبزا أو تداوي مريضا. اليرموك بحاجة لعمل يكون فيه الهدف واحداً: إنقاذ الأهالي وكسر الحصار الذي جعل منهم وقودا لحرب لا ناقة فيها لهم ولا جمل.
المطلوب هو وعي ومسؤولية وقراءة مسؤولة للواقع والسياق فهذا ليس أول فصل للعذاب لفلسطيني الشتات لكنه يأتي في أسوأ حال واجه الحركة الوطنية منذ نشأتها: حالةٌ من التشرذم والمنافسة، لا على العمل بل على التصريحات الإعلامية في سياق انقسام مرير.
في هذه النكبة الجديدة تضيع التفاصيل والحقيقة حيث الأسماء لا تدلُّ على أصحابها ومن ورائهم والأحداث لا تبين إلا وجوه الضحايا. ودون ذلك فكل التفاصيل مبهمةٌ وكل الأصوات عالية وكل المزاودات قاتلة... ارحموهم وارحمونا، مزاوداتكم تقتلهم وتقتل ما تبقى من أمل فينا.