أخر الأخبار
مباراة الخلافة بلا حَكَم
مباراة الخلافة بلا حَكَم

أطلق عباس من مشفى رام الله، صفارة البداية لمباراة الخلافة، بعد أن فعل كل شيء، لكي يغيب الحَكَم الطبيعي أو النظامي، بصفارته، عندما يحين أوان اللعبة. والرجل يعرف أن الحَكم المستتر، وهو الإسرائيلي، لن يغيب ثانية واحدة، طوال المباراة، وسيكون جاهزاً لضبطها بدون صفارة. فهو كما المُلقن على المسرح، عندما يتموضع في الفجوة المفتوحة عند حافة الخشبة، من الجهة التي لا يراها الجمهور، فيتلو فقرات الحكاية للممثلين، أو يجترح حلولاً لمآزق نسيان النصوص!

عندما كنا نتحدث ونكتب طوال سنوات طويلة عن المؤسسات الدستورية وعن النظام السياسي الوطني وشروط بقائه، وعن ثقافة الدولة؛ كان المأزومون اليوم، ومن يوالونهم من السذج، يعتبروننا معتدين على ما يسمونه "الشرعية". وبالطبع، هم لا يتذكرون من الشرعية، إلا شخص الرجل الواحد، الذي دمر كل كل شيء، وغدر بكل الناس، وشهدت مرحلته كل أنواع التطاول وإطاحة القانون، في المال والأمن والقضاء والتدابير العقابية لمجاميع الناس، وفي السلك الديبلوماسي والتنظيم الفتحاوي وأوضاع منظمة التحرير ومؤسساتها، وفي إزالة الفواصل بين السلطات، وفي نكران أصحاب الفضل والرموز ومآثر الراحلين. لقد فعل الرجل كل هذا، ونجح في فرض القبضة البوليسية الخانقة على المجتمع في الضفة، لتطال أصحاب الرأي، وتتجاوز عن تدابير العدو نفسه الذي لا يكترث للاختلافات في الآراء. كما نجح في جعل غزة منطقة منكوبة، بتجويع أهلها وخنق حياة الشعب فيها، وثابر على رميها هو والعدو عن قوس واحدة!

اليوم، يرتسم في رام الله مشهد متعدد الدلالات. فمحمود عباس لا يحتضر وإنما يُعالج من عارض صحي، مهما تضاربت الإشارات وبالغت في وصف حالته. غير أن مشهد الطامحين يتبدى كمن وقعوا في حال الشدة والاختلاف والاختلاط، وهي الحال نفسها التي رآها الشاعر أبو الفوارس شهاب الدين في قومه، فصاح:"ما للناس في حَيْص بَيْص"؟ وقد سُمي شهاب، منذ تلك الصحية، حيص بيص!

تتضارب حتى تفسيرات الإشارة الواحدة. فعباس الآن، مقيم في القسم الصغير من مشفى رام الله، الذي جرى تطويره مؤخراً لمدارة التخلف المخزي في تنمية قطاع الصحة بسبب الفساد وانحراف أولويات الصرف، حتى اضطررنا لأن نتوسل الطبابة من المحتلين وغيرهم، وأن يتصدق علينا الأشقاء والأصدقاء بإرساليات أدوية أو مشافٍ ميدانية. فمع استمرار طبابة الرجل في مشفى رام الله، بينما هو المسرف على نفسه الذي ينفق عن سعة من أموال الناس، اختلفت التفسيرات لامتناعه عن السفر للعلاج في الخارج. فمن قائل، إنها الأيام الأخيرة، وقائل آخر يؤكد على أنه محض عارض صحي حقيقي، أراد عباس من خلاله اختبار المواقف على أكثر من صعيد. وفي السياق، كانت التصريحات المتضاربة تعاند الإشارات، لكن المأزق الفلسطيني أصبح يتعلق بمريضين اثنين لا بمريض واحد. الأول، وهو عباس، يمكن أن يُشفى ويعيش الى يومه المُقدّر، لكن وضعه سيظل أشبه بحال شهاب الدين حيص بيص، عندما سُئل عن عمره فيما هو لا يعرف، فأجاب:"أنا أعيش في الدنيا مجازفةً"!

أما المريض الثاني الذي لا يعلم النطاسون كيف يداوونه، فهو نظام الحكم الفلسطيني، الذي يؤكد العدو، على الرغم من وجوده على أرض فلسطين، على أنه مستضافٌ لديه وتحت رعايته!    

يتبدى الطامحون في هذا المشهد، كمن وقعوا في حال الشدة والاختلاف والاختلاط، وهي الحال نفسها التي رآها الشاعر أبو الفوارس شهاب الدين في قومه، فصاح صيحته.

كان الحذر الشديد، والتكتم من قبل الطامحين، ومحاولات كل منهم إنعاش آماله بالتأكيد على تمام الصحة العباسية مع عميق الموالاة لها؛ يعكس حال الرعب الساكن في قلوبهم. فكل منهم يخشى من ضربة في اللحظات الأخيرة. فالرجل متقلب المزاج، وآخر ما يخطر في ذهنه، الوداد وحفظ المعروف، وإن بدا عليه العكس استثناءً، سيكون ذلك لأمرٍ يحسبه ويصبر عليه!

غير أن ما يصعب حاله على الكافر، هو النظام الفلسطيني نفسه، الذي لا يعرف كيف، وبمن، ومتى، والى أين يكون المخرج من مأزق الخلافة. الحَكَم الطبيعي الذي تمثله المؤسسات الدستورية غائب، والمُلقن الإسرائيلي جالس ومتحفز، وأغلب الطامحين يرون في الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع غراب البين. أما افتراضات أن يتقدم طامح على آخر، في تؤجج المباراة التي لا يضبط الحركة فيها قاضٍ أو حَكَم، وإنما الملقن الذي يكمن مستتراً!