أخيراً وبعد محاولات وجهود حثيثة لجمع طرفي النزاع السوري على طاولة واحدة، عقد جنيف 2 في سويسرا، وسط خطابات كثيرة عكست حالة من التباين في وجهات النظر، ابتداءً بكلمات الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا، وليس انتهاءً بكلمات طرفي النزاع المتناقضين في كل شيء.
المؤتمر الدولي انعقد بالرغم من وجود فجوات كبيرة جداً بين مواقف مختلف الأطراف، تسبق الذهاب إلى المؤتمر، ولعل ذلك من شأنه بطبيعة الحال أن يؤثر على مخرجات جنيف 2، خصوصاً وأنه تزامن مع عدم توقف إطلاق النار في الداخل السوري.
لكن لماذا الحاجة إلى جنيف 2؟ الكثيرون يعتبرون أن الحل في سورية سياسي وليس عسكريا، على اعتبار أن النزاع المستمر لأكثر من ثلاثة أعوام لم يحقق الحسم لأي من طرفيه، إلى جانب أن سورية أصبحت تشكل قاعدة للنزاع بين دول كبرى، في وقت يدفع فيه الشعب السوري ثمن حرب صعبة وطاحنة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ولأن اللاعبين الدوليين الكبار، لم تتمكن أدواتهم من حسم النزاع في الداخل السوري، فكان لابد من إطلاق مسار سياسي يحاول الوصول إلى نتائج مرضية لا يمكن أن يحققها الحسم العسكري، الأمر الذي دفع هؤلاء إلى اختراع النسخة الأولى من جنيف وهكذا دواليك.
ما يميّز المسار السياسي الحالي أنه في حقيقة الأمر منصة لاستكمال النزاع، فهو تعبير دبلوماسي عن النزاع العسكري الدائر على الأرض، واستتباع لهذه الحالة، ولعل هذا كان واضحاً سواء في الاجتماعات الكثيرة التي سبقت جنيف 2، أو أثناء انطلاق أعمال هذا المؤتمر الدولي.
في مونترو اختلفت النغمات السياسية، وبدا أنه كان من المفترض تهدئة النفوس وإيجاد حالة دنيا من التوافق الدولي قبل انعقاد هذا المؤتمر، لأن ما جرى يوم افتتاح أعمال جنيف 2، أوضح أن المسار السياسي جد معقد، وربما لن يحمل معه رياح التغيير التي يتمناها المؤتمرون.
إن ما حصل ربما كان شبيهاً بما يدور في الداخل السوري، فهناك نزاع مستمر إلى اللحظة، وهو متواصل بالرغم من انطلاق جنيف 2، وهذا الأخير امتداد لما يجري في الداخل السوري، على اعتبار أن أغلب المواقف عكست رؤية ضبابية وأضافت تعقيدات على الحل السياسي.
الخطاب الأميركي الذي ألقاه وزير الخارجية جون كيري، ما يزال متمسكاً بضرورة رحيل الأسد عن السلطة والولوج في مرحلة انتقالية لا مستقبل للرجل فيها، والخطاب الروسي على لسان لافروف، طالب بعدم تدخل لاعبين خارجيين في شؤون سورية الداخلية، معتبراً أن المفاوضات لن تكون سهلة ولا سريعة.
خطابان مختلفان ولكن متعاكسين، لأن روسيا تدعم حليفتها سورية وتركز معها على ضرورة إيجاد حل للنزاع، هذا إذا أضفنا أن الوفد السوري إلى جنيف 2، جاء على قاعدة الخروج من الأزمة الداخلية عبر وقف النزاع وليس الحديث عن مرحلة انتقالية يغيب عنها الأسد والنظام، وهناك تناغم بين الموقف السوري والروسي من هذا الطرح.
لقد كان حديث وزير الخارجية وليد المعلم واضحاً فيما يتعلق بالموقف السوري، وهم ينظرون إلى جنيف 2 بعيونهم المختلفة عن عيون وفد الائتلاف الوطني المعارض، ففي حين جاء المعلم ليناقش ما سماه وضع حد للإرهاب ووقف النزاع الداخلي ورفع الحصار الدولي المفروض على سورية، يؤكد رئيس وفد المعارضة أحمد الجربا أن المرحلة الانتقالية تستلزم رحيل الأسد عن السلطة.
هذا التباين من شأنه زيادة استعصاء العملية السياسية، خصوصاً إذا أضفنا عاملاً آخر مهما، يتمثل في غياب كل المعارضة، ذلك أن الائتلاف الوطني يشارك في جنيف 2، بينما كل أنواع المعارضة تقاتل النظام في الداخل السوري.
بشق الأنفس تمكن الائتلاف من الموافقة على المشاركة في جنيف 2، إذ أنه حسم فيما مضى هذه الموافقة في إحدى اجتماعاته باسطنبول، وعاود التراجع عنها، وماطل في اتخاذ القرار إلى ما قبل انعقاد المؤتمر الدولي بأيام قليلة، وهذا غير مخفي على أحد كم هي حجم الضغوطات التي تعرض لها الائتلاف للمشاركة.
مع ذلك، فإن الائتلاف ما يزال متهماً عند بعض المعارضة، خصوصاً الإسلامية منها، بأنه ذهب إلى جنيف 2 بينما لا يمثل المعارضة الحقيقية وبدون تفويض من جهة الأخيرة، وهذه واحدة من الإشكاليات التي من شأنها التأثير على المسار السياسي.
هذا يعني أن الائتلاف سيبقى متمسكاً بموقفه إزاء ضرورة رحيل الأسد وتشكيل حكومة انتقالية لا مستقبل فيها له ولا لنظامه، وفي حال تراجع عن هذا الموقف فسيكون في "بوز المدفع" أمام كل أطياف المعارضة، مع أنه اليوم في نزاع مع بعض القوى والتنظيمات الإسلامية التي تحاربه للهيمنة على المشهدين السياسي والعسكري.
وبما أن كل طرف متمسك بموقفه وكأننا أمام لعبة شد الحبل، فهذا يعني بالنتيجة أن جنيف 2 المنعقد الآن والمتواصلة اجتماعاته، لن يحقق معجزة تؤدي إلى حل سياسي شامل وكامل للقضية السورية، إلى جانب أن من يتحدثون عن كون الحل سياسي، فهذا قد يكون كلاماً غير صحيحاً بالنظر إلى معطيات ووقائع كثيرة.
في نهاية المطاف سيكون الحل سياسياً، لكنه مبني على حل عسكري، وهذا أغلب الظن ما سيحدث في المستقبل، لأن لا أحد قادر على حسم النزاع سياسياً في ظل هذا البون الشاسع من الاختلافات في المواقف، الأمر الذي يعني أن السلاح ومواصلة النزاع هو الذي سيحدد الموقف.
ربما سيتمخض عن جنيف 2 بعض القضايا الإجرائية المتعلقة بتبادل السجناء من طرفي النزاع، وفتح ممرات إنسانية لتقديم وإيصال المساعدات إلى المنكوبين، إلى جانب فتح المجال أمام تقديم الدعم الأميركي والغربي إلى الائتلاف السوري المعارض بغية إقوائه وتأكيد صموده أمام النظام.
إن عدم الوصول إلى حل ينهي النزاع السوري في جنيف 2، سيقود أوتوماتيكياً إلى التأكيد بأن أساس الحل عسكري بامتياز، طالما تمكن اللاعبون الكبار من جمع 40 دولة وطرفي النزاع السوري على طاولة مستديرة، ودون أن يحقق المؤتمر الهدف المتعلق بإيجاد مخرج للأزمة.
ويبدو أن فشل جنيف 2 مرهون بتعويمه أيضاً، من حيث أن محركي المؤتمر شهدوا مناورات سابقة وارتفاعاً وهبوطاً في السقوف التي نادت بين أهمية رحيل الأسد عن السلطة وربط مشاركة النظام بالموافقة على ذلك، وبين إرخاء الحبل لجهة عدم الخوض في هذا الموضوع.
وعلى كل حال فإن من "يدق الباب يسمع الجواب"، والمعنى أن بداية انطلاق المؤتمر وما حملته من خطابات كثيرة، قدمت استنتاجاً لما سيفضي إليه جنيف 2 من نتائج، هي هزيلة بطبيعة الحال ولن تحقق في هذا المسار السياسي العائد المثمر والطريق الآمن لكافة الأطراف.
ويبقى القول: إن جنيف 2 هو ميدان للاشتباك السياسي بين الفرقاء وربما مسار تفاوضي في مسار طويل ومعقد، طالما وأن الخلاف السياسي حاضر والخلاف العسكري مشتعل وحاضر أيضاً، والأهم أن النزاع متواصل إلى لحظة انعقاد هذا المؤتمر.