من المسائل التفاوضية التي قد لا يلاحظها القارئ العادي أن المفردات التفاوضية لها دلالات سياسية مهمة ، وقد تحدد مستقبل أية تسوية ، بل وقد تحدد موقف الأطراف التفاوضية ، ولعل أحد أهم نقاط ضعف إتفاق أوسلو ، او بالأحرى لماذا فشل إتفاق أوسلو تكمن في المفردات التي قد تضمنته.
المشكلة ذاتها يبدو أنها تتكرر الان، والتي وقع فيها المفاوض الفلسطيني عندما تفاوض قبل ستة عشر عاما، على المقترحات التي يفترض أن يطرحها وزير الخارجية الامريكي جون كيري فيما يعرف بإطار عام للتفاوض لمدة زمنية أخرى لا تزيد عن عام، وهذا هو الخطأ الثاني الذي قد وقع فيه المفاوض الفلسطيني قبل ستة عشر عاما وتحديدا عام 1993 عندما تم الإتفاق على فترة تفاوضية لا تزيد عن خمس سنوات يتم خلالها الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية ، ولو تم ذلك لاختلفت مسيرة المفاوضات ، ونتائجها ، بل ولأمكن التوصل إلى صيغ نهائية للسلام ، لأن كثيرا من القضايا الرئيسة كالمستوطنات ، وسيادة الإتجاهات اليمينية المتشددة ، وتنامي القوى المعارضة في الجانبين بسبب فشل المفاوضات لم تكن بنفس القوة التي هي عليها الان المفاوضات .
ومن الأخطاء الأخرى عدم ادراك إن الإستمرار في المفاوضات قد يقود إلى قاعدة تفاوضية مهمة وهي قاعدة الإغراق التفاوضي ، إن تجد نفسك رهينة مفاوضات مستمرة ، وغير قادر على التحرر من قيودها . وزير الخارجية الأمريكية وانا لست من أنصار نظرية المؤامرة ، ولا أنفي رغبته في الوصول إلى إطار عام يحكم العملية التفاوضية ، ولكنه إذا أراد فعلا مفاوضات جدية عليه أن يعي التراث التفاوضي السابق، والوقوف على أسباب فشل المفاوضات ، رغم إن بنية المفاوضات السابقة قد تكون أفضل مما هي عليه الان. وأن يدرك حقيقة تفاوضية كثيرا ما تم تجاهلها أمريكيا ، وهو ان الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي لا يمكن بمفردهما أن يصلا لإتفاق ينهي الصراع بينهما لأسباب وعوامل كثيرة منها الفجوة النفسية العميقة بينهما ، وبسبب الروايتين التاريخيتين المتناقضتين وغير المتقابلتين في أي دائرة من دوائر المفاوضات .
أضف إلى ذلك المحدد الإقليمي والدولي الذي يتحكم في مسار الصراع ، والمفاوضات ، وحيث إن الولايات المتحدة تحتكر عملية التفاوض فتقع عليها مسؤولية مباشرة في تقديم حلول إبداعية تجسر هوة الخلاف بين الروايتين ، وهذا يحتاج إلى دور أمريكي أكبر يأخذ في الإعتبار إعتبارات الأمن الإسرائيلي ، واعتبارات العدالة للموقف الفلسطيني، التوافق بين هذين الإعتبارين يمكن إن يوصل إلى إتفاق بمرجعية محددة ، وبفترة زمنية معقولة يتم من خلالها تطبيق منهاج حل الصراع، وهذا يعني التوفيق بين منهاج إدارة حل الصراع ، ومنهاج حل الصراع عبر هذه الفترة الزمنية ،التي يتم فيها تطبيق تفاصيل هذا المنهاج. وهذا هو الفارق بين إتفاق إطار ، وإطار إتفاق يحكم المفاوضات . إسرائيل تريد إطار إتفاق ولا تريد إتفاق إطار ، والفارق كبير بين المفهومين.إسرائيل تريد تكرار نموذج إتفاق اوسلو ، والقبول بإطار إتفاق غير ملزم لها في المستقبل، ويتضمن على مبادئ عامة قابلة للتفسير كما تريد، ولا يحمل حلولا واضحة ، وبفترة زمنية محددة بما يتفق ومنهاج الحل لأنها غير مستعدة لذلك وانها ترى إن منهاج الحل يتعارض مع رؤيتها للسلام الذي تريده، والذي تحكمه أيدولوجية صهيونية لم تعد صالحة . ولا تتوافق ومنهاج الحل لأنه يقوم على رفض الرواية التاريخية الفلسطينية بالكامل، وهذا ما يفسر لنا قبول إسرائيل بالدولة الفلسطينية ورفضها في الوقت نفسه الإقتراب من قضايا القدس واللاجئين، وإصرارها غير المبرر على إعتراف الفلسطينيين بإسرائيل دولة يهودية ، رغم إن الفلسطينيين قد اعترفوا بها كدولة ، بل وبحريتها في وصف نفسها كما تريد. هذا الموقف هو الذي يفسر لنا لماذا تريد إسرائيل إطار إتفاق ، وليس إتفاق إطار.إتفاق الإطار يستند على التفاصيل والوضوح في الرؤية والحلول للقضايا الرئيسة ، ويتضمن إطارا مرجعيا وزمنيا ملزما، والفارق بين المفهومين تماما كالفارق بين نظرية الغموض الخلاق التي انتهجتها السياسة الأمريكية في إدارة المفاوضات ، وكانت نتيجتها استمرارية المفاوضات ، وعدم تقيد إسرائيل بما تم الإتفاق عليه، هذا المنهاج لم يعد يصلح .
وما تحتاجه المفاوضات منهاج جديد يقوم على الوضوح والرؤية الخلاقة هذا إذا ارادت أمريكا فعلا حلا للصراع، وليس إدامته من خلال إطار إتفاق يتسم بالغموض، وليس إتفاق إطار يتسم بالوضوح.