أخر الأخبار
صفقة انبعاث سلطوية الوطنيات الفئوية
صفقة انبعاث سلطوية الوطنيات الفئوية

بات واضحا أن "دبلوماسية" صفقة القرن الإسرائيلية – الأميركية، وحركتها الدائرية المتواصلة، منذ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عن نواياه بأن يبدأ شغله التجاري والاستثماري ومنطقه الصفقوي بقضايا المنطقة الإقليمية، وفي مقدمتها وعلى رأسها القضية الفلسطينية، لا سيما وهي تتحول اليوم إلى السلعة الرائجة كمضمون للصفقة، بل للصفقات الاستثمارية التي لا تجيد إدارة ترامب سوى الغزل على منوالها، وسرعان ما وجدت أصدقاء وأتباع كشفوا عن أستار واستيهامات الرغبة الجامحة في الانضمام إلى جبهة العدو القومي، وكسروا حواجز الرهبة من الإقدام على كشف وتطبيع علاقاتهم مع عدو تاريخي، ليس لشعب الأرض الفلسطينية، بل لشعوب الأرض العربية كلها، أملا في الحفاظ على عروش سلطاتهم وبقائهم أطول فترة ممكنة، وسط عالم من الاضطراب وعدم الاستقرار، وللحفاظ على ثرواتهم ومصالحهم المالية والسلطوية والزبائنية الخاصة؛ مهما يكن الثمن المراد تحصيله منهم.

الطبعة الجديدة للصفقة في تحولاتها الاقليمية الراهنة، ما فتئت تفصح عن مسيرتها ومساراتها، الهادفة لتفتيت الهوية الوطنية الفلسطينية، وجعلها "وطنيات" فئوية متنازعة على السلطة، بما يعمق من موضوعة الانقسام القائمة، ويدفع بها نحو انفصال الكيانات المجتمعية والسياسية والفصائلية، وتجسيد سلطتها وسلطوياتها في أماكنها، دون أن تتعداها إلى أماكن أخرى، كفصل غزة عن الضفة، بما يحفظ لكل كيان سلطوي فيهما "سيادته" الفئوية على "شعبه " و "مجتمعه". وتلك قمة المأساة التراجيدية، والمهزلة التي يحاول بعض الأطراف الفلسطينية والعربية والدولية، أن يساهم كل منها في تقديم إلتزاماته وخدماته لإنجاح مآلات الصفقة.

في أعقاب انتهاء جولة كوشنير – غرينبلات المكوكية على أطراف الصفقة الإقليميين، من دون الالتقاء بالفلسطينيين، أبرزت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، ما قالت انه "الملامح شبه النهائية للصفقة"، بما لا يتخارج عن الموقف الإسرائيلي المعروف، القائم على "منح الفلسطينيين في الضفة الغربية كيانا أقرب إلى الحكم الذاتي منه إلى دولة سيادية"، وهذا ما لن يرضي الفلسطينيين بالمطلق، وهو الموقف الذي كان قد عبّر عنه في أكتوبر/تشرين الأول 1995، رئيس الحكومة الأسبق، إسحاق رابين، في آخر خطاب له أمام الكنيست، عند عرض اتفاق أوسلو الثاني عليه، وأكد فيه أيضاً أنه لن يكون هناك انسحاب إسرائيلي من الأغوار الفلسطينية. وهو ذات الموقف الذي ما فتىء يؤكده اليوم الائتلاف الحكومي اليميني المتطرف بزعامة نتنياهو.

ووفقاً للصحيفة في عددها يوم الجمعة الماضي (22/6/2018)، يتضح من التفاصيل، إشارة إلى أن الولايات المتحدة تعتزم فعلاً عرض إعلان قرية أبو ديس شرقي القدس المحتلة باعتبارها العاصمة الفلسطينية، مقابل انسحاب إسرائيلي من 3 أو 5 من القرى الفلسطينية المحيطة بالقدس، التي كانت حكومات الاحتلال ضمتها إلى منطقة نفوذ بلدية القدس، بعد الاحتلال في عام 1967. وهذا تحديدا ما قد يكون مدعاة لرفض اليمين الإسرائيلي وحكومته المتطرفة.

إلا أن العجز الفلسطيني عن المواجهة، ومجابهة "خطة الصفقة"، يبدو عنصرا مساعدا لكامل عناصر المقاربة الصفقوية وعمادها المالي، في ابتعادها عن طبيعة العمل والحراك السياسي والدبلوماسي، حتى باتت سرديات المفاوضات وقد صارت من الماضي البعيد، كما تأمل أطراف الصفقة، وعلى أن يكون التنفيذ مباشرة ولو بالضغوط والإكراهات المختلفة؛ فما يبدو "إنسانيا" ليس سوى ضغوط سياسية ومالية، هدفها جلب الفلسطينيين إلى مكامن يبدأون منها في تنفيذ الجوانب المطلوبة منهم، بدون تفاوض أو جدالات أو نقاشات عقيمة، وهذا الهدف يستغل وضع الفلسطينيين المزري في الضفة الغربية كما في غزة، على كل الأصعدة السياسية والاجتماعية والمعيشية. كما يستغل حاجة كل سلطة من السلطتين لتثبيت "أمر واقعها" على حساب المشروع الوطني الفلسطيني الموحد وأهدافه التحررية.

من هنا تبدو "الغيرة" الإنسانية على أهل القطاع، كما ترد اليوم في أحاديث "غزة أولا" الإسرائيلية والأميركية والأوروبية والعربية، تخفي بالفعل أهدافا سياسية إجرامية تخدم في النهاية كيان الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي، ومن يواليه ويدعمه في هدف طال انتظاره على مدى السبعين عاما التي مضت: هدف تذويب الهوية الوطنية الفلسطينية وتفتيت وتشتيت شعب الأرض، وإنهاء حلم الوطن الفلسطيني الموحد. وهذا هو جوهر الصفقة ومقارباتها الإسرائيلية أولا والأميركية ثانيا، فقد سعت حكومة الائتلاف اليميني المتطرف إلى أن تحمل الصفقة كل مطامعها ومطامحها في تحقيق الحد الأقصى منها، فيما هي لا تحمل للفلسطينيين أي مطمح وطني موحد، بقدر ما تسعى إلى تسعير خلافاتهم وانقساماتهم فيما بينهم؛ وصولا إلى تكريس حال انفصالي سلطوي، شبيه بحال روابط القرى العميلة التي تشكلت يوما، وها نحن نرى مثائل لها وإن بتسميات مختلفة، ولكن بمهام متشابهة.

في هذا السياق تأتي مقترحات تحويل المجلس المركزي بديلا عن المجلس التشريعي، وعديد الإجراءات السلطوية في الضفة، وكأنها تتساوق مع مقترح "غزة أولا" (الإنساني) ذات البعد أو الأبعاد السياسية المضمرة، وكل هذه مسلكيات فئوية لا تشبه الشعب الفلسطيني وقضيته التحررية؛ تلك المسلكيات علاوة على كونها تفريطية وإخضاعية، هي كذلك عوامل تفتيتية وتشتيتية، لا علاقة لها بمحاولات استعادة وحدة المسار والمصير الوطني، بقدر ما تسعى ويسعى أصحابها للانخراط ولو مداورة في مشاريع مضادة بالمطلق لحقوق شعب الوطن الفلسطيني، على أطباق من وساخات المال السياسي والمصالح الزبائنية والصفقات المشبوهة، والشراكات الاقتصادية من جهة؛ وتلك الأمنية والبوليسية من جهة أخرى مع إسرائيل، كنظام ابارتهايد عنصري لا يعرف حدودا لاحتلالاته، بينما وفي المقابل يجري تكريس سلطات فئوية أتعبها الكفاح التحرري، وباتت تطمع في البقاء والتمترس عند حدود سلطة رسمتها لنفسها داخل حدود فلسطين التاريخية الداخلية، على حساب الهدف الوطني العام لمجموع شعب الوطن الفلسطيني، الذي جرى ويجري تقسيمه واقتسامه حصصا ومغانم بقوة القمع والبطش السلطوي، في محاكاة ومقاربات فاشية لسلطويات الاستبداد الرسمي والميليشياوي الذي يتربع فسادا وإفسادا وقمعا وبطشا بوليسيا، ويرتع هيمنة وشراكات أمنية وتطبيعية مستفزة مع إسرائيل في هذه البلاد طولا وعرضا، وذلك بحجج أوقح من ذنب الخيانات والتخلي عن الأشقاء، لما تدعيه من مجابهة مخاطر التدخلات الإيرانية، مع أن الجميع بات يعرف أن استعمال "البعبع الإيراني" للاستثمار فيه، بما يخدم مصالح الكارتلات الكبرى والشركات المتعددة الجنسية والعابرة لحدود البلدان والقارات، إنما يتم لصالح إسرائيل أولا، والولايات المتحدة بالتواطؤ مع نظام الملالي، لا على الضد منه.

هذا في وقت تواصل "الوطنيات" الفئوية مد أذرعها الاخطبوطية إلى أقدس القضايا الوطنية، وفي النيات المفضوحة والفاضحة استمرار التخلي عن نمط من أنماط الوعي الذي حفظ لنا حدا أدنى من الوطنية، حتى قلبت السلطة ومعادلها القمعي/الاستبدادي كل المعايير، وذهبت مع ريحها كل الحدود العليا والدنيا، من وطنية بات الجميع يبكي على ضياعها بكاء الحنين على ما مضى.