كما كان متوقعاً فقد أصبح ترشُّح الفريق أول (المشير) عبد الفتاح السّيسي لرئاسة الجمهورية بحكم المؤكد، وأصبح نجاحه في هذه الانتخابات أمراً مرجحاً إلى أبعد الحدود في ضوء شعبيته الكاسحة، وفي ضوء تعلق ملايين المصريين بشخص استحوذ على عقول وقلوب هذه الملايين في فترة قياسية.
لكن كيف يمكن تفسير "ظاهرة" السّيسي وما هذا الحبّ الجارف الذي أصبح يحيط بهذا الرجل، وكيف تمكن وزير دفاع "جديد" أن يأسر أفئدة المصريين ويتحول إلى ما يشبه الأسطورة؟!
أزعم هنا أن السّيسي لم يكن ليتحول إلى ما تحول إليه لولا أن الشعب المصري كان يبحث عن "مخلّص" في ظل ما وصلت إليه البلاد من مأزق تاريخي غاية في الاستعصاء بعد سنة كاملة من محاولات اختطاف الدولة التي أعقبت اختطاف الثورة.
البحث عن مخلّص ليس مسألة خارج نطاق تفسيرات ونظريات علم النفس الجماهيري، وهي مسألة "منطقية" في مراحل الأزمات السياسية المستفحلة لدى كل شعوب الأرض بما في ذلك الشعوب المتقدمة، وهي مسألة لا تتعلق بالمراحل التاريخية القديمة للمجتمعات البشرية بل هي ظاهرة متكررة في التاريخ الحديث والمعاصر لهذه المجتمعات والشعوب.
يضاف هنا أن المصريين تسكنهم ثقافة دينية هي أقرب إلى الثقافة الشعبية الشيعية وأن فكرة "المخلّص" فكرة كامنة في العقل الباطني للثقافة الدينية للمصريين. ان قداسة الحسن والحسين والسيدة كما نعرف هي قداسة خاصة بالثقافة الدينية الشيعية أكثر مما هي قداسة عند أتباع المذهب السنّي، وتكاد تكون هذه القداسة محصورة في مصر بالمقارنة بكل بلدان العالم الإسلامي التي تتبع المذهب السنّي.
ففكرة المخلّص إذن هي جزء من مكنون السياق التاريخي للثقافة الشعبية في مصر.
التعلق بالحلم والأمل والخلاص ليس فكرة خاصة بالمصريين كما أوضحنا ولكنها فكرة عالية القيمة بالمقارنة مع الشعوب العربية الأخرى.
يضاف إلى ذلك أن الشعب المصري يحب وطنه كما تحب الشعوب أوطانها لكنه يحبّ دولته أيضاً. الفرق بين الدولة والوطن فرق معروف لكن هذا الفرق ليس واضح المعالم في الحالة المصرية.
يعود السبب في ذلك ـ كما أرى ـ إلى عراقة الدولة المصرية ورسوخها في الثقافة الوطنية للمصريين ليس فقط في العهود التاريخية القديمة وإنما في العصر الحديث أيضاً.
ونحن في الحقيقة نستطيع أن نلمس هذه المسألة بمقارنة مؤسسة الدولة في مصر منذ محمد علي باشا ـ على الأقل ـ مع مؤسسات "الدولة" العربية الأخرى وحيث أن هذه المقارنة تفضي حتماً إلى مقارنة فارقة تماماً.
وفي هذا الاطار يمكن القول إن الدولة المصرية هي الدولة العربية الوحيدة التي تنطبق عليها (فعلياً وواقعياً) مسمّيات الدولة وخصائصها.
وبمقارنة الدولة المصرية الحديثة بالدول العربية الأخرى نلحظ أن هذه الدول في تكوينها السياسي وفي منطوقها القانوني وفي مضمونها المجتمعي هي الدولة الوحيدة في كامل هذا الإقليم.
ويضاف إلى كل ذلك دور الجيش المصري نفسه في حماية مشروع الدولة المصرية، وكيف أن الجيش المصري قد ارتبط تاريخه بتاريخ الدولة المصرية الحديثة حتى أن بعض المؤرخين والعلماء يعتبرون الدولة المصرية الحديثة ثمرة من ثمرات الجيش المصري نفسه.
الدور الوطني للجيش والذي أنيطت به على الدوام حماية الدولة المصرية خلق من ثنائية الجيش والدولة في مصر ثنائية خارج نطاق الاستحواذ السياسي المباشر وتحولت هذه الثنائية في الثقافة الشعبية والوطنية إلى نوعٍ من المسلّمات الوطنية الراسخة.
عندما اختطف الإخوان ثورة 25 يناير استشعرت النخبة السياسية هذا الاختطاف ولكنها ترددت في الحكم على هذا الاختطاف، أما عندما تحول الإخوان إلى السطو على الدولة والاستئثار بها وأخونة مؤسساتها وتعريض الأمن القومي للخطر وتحطيم قدراتها تمهيداً للانقضاض عليها شعر المصريون أن البلاد باتت في خطر والدولة في مهب الريح والمجتمع على أبواب حرب داخلية مدمرة.
في هذه اللحظة التاريخية الفارقة ظهر عبد الفتاح السّيسي وكان هذا الظهور بمثابة الأمل والحلم. واستطاع هذا الرجل الحازم والحنون، القائد والزعيم، القوي كالجبال والرقيق الطيب الحاني أن يأسر قلوب المصريين وعقولهم لأنه خلق لديهم الأمل وخلق لديهم الهدف وأصبح للمصريين حلم يتعلقون به ويسعون للوصول إليه.
دور الفرد في التاريخ ينبع كما نعرف من وجوده في اللحظة التاريخية المناسبة ومن مواصفات قيادية قادرة على الاستجابة لتلك اللحظة.
ولأن السّيسي على هذه الدرجة من الأهمية فإن الخطر عليه هو خطر حقيقي وأعداء مصر يعرفون هذا جيداً.