تتوالى الاضطرابات في الأقطار العربية بشكل لم يسبق له نظير منذ ربما مئات السنين. و تتفاقم الأحداث يوما بعد يوم بشكل يدعو إلى القلق الشديد، وخاصة العنف المجتمعي و ارتفاع معدلات الجريمة الفردية والمنظمة، و تزايد النزاعات والقتل والتدمير، والاغتيال والإرهاب و التي يذهب ضحيتها مئات الآلاف من القتلى الأبرياء، ونزوح وتهجير و اقتلاع الملايين من المواطنين في العراق وسوريا والسودان واليمن ولبنان وليبيا و مصر. ومع كل مناسبة سياسية، أو لقاء دولي، أو حتى مناسبة وطنية أو دينية، تتطلع الجماهير في طول البلاد العربية وعرضها، لأن تكون تلك المناسبة بداية لمرحلة جديدة، تعيد للمواطن الأمن والسلام ، وتقوم على التوافق والتسامح، و إنهاء الحقد والانتقام بين الفئات المختلفة، والوصول إلى حالة من التصالح حتى بين الخصوم الألداء. ولكن ذلك لا يحصل أبداً. حتى في مؤتمر مثل مؤتمر جنيف (2)، لم يقع أي تقدم يذكر، رغم أعداد الضحايا، ورغم الجهود الدولية، والمناشدات الإنسانية. ولا تزال عجلة الخراب والدمار والموت تدور وتدور في بقاع عديدة من هذا العالم العربي،الذي لم يعرف الاستقرار منذ مئة عام أو أكثر.
والسؤال الذي يبحث عن إجابة هو: لماذا هذا التخاصم والتقاتل والتناحر بكل قسوة ووحشية؟ لماذا هذا التعنت و التحجر عند الاختلاف؟ وهذا العناد و التمترس عند التباين؟ لماذا هذا التواضع والتودد و الانصياع للأجنبي الذي يزود بالمال أو السلاح أو الدعم السياسي؟ والتكبر والاستعلاء والصلف والقسوة تجاه ابن الوطن و ابن الطائفة وابن الجهة؟ حتى لو كان ثمن ذلك الموت و الهلاك للبلاد والعباد؟
الكثير من البلدان تعرضت لنزاعات داخلية. ولم ينته أي نزاع في معظم الحالات على مبدأ أما غالبا وإما مغلوبا ، وإنما انتهى على أساس التوافق والوصول إلى منتصف الطريق. في كمبوديا قتل الخمير الحمر ما يزيد عن (2) مليون شخص من أبناء وطنهم، ولم يضمن لهم ذلك البقاء في السلطة. فالحكم الفردي أو الديكتاتوري القائم على الأيديولوجيا والاستحواذ لا مستقبل له أبدا. و من كانوا يطلقون عليهم أعداء النظام و أعداء الثورة، كانوا في الحقيقة مواطنين عاديون و بسطاء يطالبون بشيء من الحرية وشيء من التغيير. واستمر القتل إلى أن انهار نظام الخمير الحمر الدموي وتصالحت القوى السياسية وبدأت كمبوديا مسيرة جديدة. وفي جنوب أفريقيا بعد سجن دام (26) عاماً، خرج نيلسون مانديلا مناضلا من نوع جديد. مناضل يبحث عن المستقبل و ليس الماضي، ويفكر فيما عليه أن يبني لأجل شعبه، لا لينتقم من الآخر بالقتل والحرق و التدمير . وكان قادرا على إعدام الآلاف من البيض الذين أذاقوا السود، وهو منهم، المذلة والهوان والاستعباد لعشرات السنين . نيلسون مانديلا لم ينس أن له وطن وبلد وشعب، وهؤلاء يتطلعون إلى غد مختلف مزدهر، وليس إلى ماض كئيب بائس. وبالتالي كان يشعر بهول الكارثة التي وصل إليها أبناء وطنه، و أن عليه أن يضع كل الجهود والإمكانات للبناء والأعمار وإعادة الحياة للشعب والأرض، فذلك دوره التاريخي. وتخلى عن الحكم برغبته بعد أربع سنوات فقط. وكان يعتقد أن دفع السود إلى الانتقام لن يحقق لهم شيئا، ولن يضيف إلى حالتهم لا مالا ولا سعادة ولا ارتقاء، بل سيخلق إشكالات جديدة لا يحسن الدخول فيها، وليس لأحد من مصلحة بذلك.
تتعلل الإطراف العربية المتنازعة أنها تريد أن تستمر في التدمير والاحتراب لأنها تحارب الإرهاب وتواجه الجماعات الإرهابية المتطرفة . والسؤال : هل يستطيع هؤلاء الإرهابيون أن يستمروا في إرهابهم لو أن توافقا وطنياً تم التوصل إليه ؟ هل يمكن للمرتزقة أن يدخلوا بلداً متماسكاً فيه توافق بين الحكم وبين المجتمع ؟ هل يمكن للمتطرفين أن يقطعوا الرؤوس ويقتلوا الأطفال لو أن السلطة الحاكمة تنازلت الى منتصف الطريق ،وتم إدخال الإصلاحات التي طالب بها الناس ؟ بالتأكيد لن يتمكن الإرهابيون والمرتزقة والمتطرفون فعل ذلك . و يتساءل المواطن البسيط: لماذا لا يقع التصالح والتسامح والتوافق في المنطقة العربية التي راحت تتفتت تحت فعل التدمير الذاتي لأقتصاداتها وجيوشها وأراضيها وثرواتها ومستقبلها؟
الإجابة واضحة إن القيادات ، حاكمة كانت أو معارضة، لا تفكر إلا بالحكم والسلطة، ولا تعنيها البلاد إلا في أضيق الحدود. وهي أن اهتمت قليلاً فإنها لا تدرك حجم الكارثة التي تنتظر البلاد بأكملها. لا تدرك متى تقف، وعند أي حد، ومتى تتنازل، ومتى تتحرك عند المنتصف ؟ ذلك لأن الموت والدمار النفسي والوطني والعسكري والاقتصادي لا يعني لها الشيء الكثير. ما الذي يجعل الجنرال ديغول وهو رئيس منتخب وبطل قومي حقيقي، يترك الرئاسة طوعا، ويغادر قصر الأليزية فور إعلان نتائج الاستفتاء على تعديلات الدستور وليس عليه شخصياً ؟ ما الذي يجعل انجيلا ميركل تقرر أن تتحول الطاقة في ألمانيا عام 2050 بكاملها إلى الطاقة المتجددة ؟ ما الذي يجعل الدول الكبرى والصغرى المتقدمة قادرة على تحديد مساراتها الاقتصادية والسياسية والعلمية والتكنولوجية لعشرات السنين القادمة ؟ والإجابة أنهم يدركون أن الأوطان ليس ملكهم الشخصي، وأن حجم الكارثة كبير إذا لم يتصرفوا بحكمة و وفق إرادة شعوبهم. هذا في حين أن المنطقة العربية تراوح رجوعها خطوة إلى الأمام وخطوات إلى الخلف ؟ الجواب : إن صدمة الكارثة غائبة عن العقل القيادي العربي . هذا العقل الذي لا يرى إلا مصالحه الشخصية، ومكاسبه الآنية، ومتعلقاته الذاتية،حتى ولو كانت على حساب شعوب بأكملها . هل التخلف كارثة ؟ هل التغيرات المناخية بما فيها من حرارة وجفاف كارثة ؟ هل العجز الغذائي في جميع الأقطار العربية كارثة ؟ هل ندرة المياه وارتفاع كلفة الطاقة كارثة ؟ هل تجذر الفقر والبطالة كارثة؟ هل الانقسام الوطني كارثة؟ والأسئلة لا تنتهي . لو أن أيا من هذه المسائل وقعت في الأقطار المتقدمة الديمقراطية لتحركت جميع القوى والقيادات والزعامات والأحزاب والناس باتجاه مواجهة الكارثة .
إن “السلطة والحكم” هي الكارثة الوحيدة التي تهتز لها القيادات العربية، وتتحرك من أجلها القوى، ولو كان ذلك حساب الدولة بكاملها، ولو كان على حساب المستقبل بكل ما فيه . أي ثقافة، وأي تربية، و أي تعليم، و أي وطنية، وأي سجايا، و أي قيم إنسانية ينبغي أن تتغير وتتبدل وتتطور و تتموطن و” تتأنسن” في هذا العالم العربي ؟ إن المسيرة نحو مستقبل أفضل و أرقى، حقا شاقة و طويلة.