يتوفر لبنان على إمكانية الكشف عن «الطابق المخفي» من صراعات القوى وأجهزة الاستخبارات المحتدمة في المنطقة الممتدة من الرمادي وحتى ضاحية بيروت الجنوبية، مروراً بدمشق ويبرود ودرعا ... فهذا البلد الصغير والجميل، حولته حروبه الأهلية وحروب الآخرين عليه، إلى «منصة» و»صندوق بريد» معاً ... «منصة» لتبادل اللكمات «تحت الحزام» بين قوى إقليمية مصطرعة، و»صندوق بريد» لتبادل الرسائل المضمخة بدماء اللبنانيين وضيوفهم.
الجيش اللبناني يتقدم على جبهات عديدة في حربه المفتوحة على الإرهاب ... نجح في اعتقال أمير «كتائب عبد الله عزام»، السعودي ماجد الماجد، الذي ما زالت قضية وفاته في الساعات الأولى لاعتقاله، لغزاً استخبارياً شديد التعقيد ... والجيش ألقى القبض على الشيخ عمر الأطرش، الرجل الذي تولى نقل السيارات المفخخة والانتحاريين من منبعها إلى مصبها الدامي ... وأخيراً نجح الجيش في اعتقال أحد أبرز المطلوبين لبنانياً وإقليمياً ودولياً، الفلسطيني نعيم عباس، والذي يعتقد على نطاق واسع، بأنه العقل المدبر لكثير من الأعمال الإرهابية التي ضربت لبنان ومؤخراً، وثمة من يربطه بعمليات اغتيال سابقة، زمن «فتح الإسلام»، استهدفت اللواء فرانسوا الحاج والنائب وليد عيدو والوزير بيير الجميّل، وهي جرائم منظورة أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بجريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
والحقيقة أن المراقب المهتم بكشف خيوط «لعبة الأمم» في لبنان وسوريا وصولاً للعراق، يتطلع بشغف لمعرفة نتائج التحقيقات مع هذا «الصيد الثمين»، ويخشى أن يواجه الأطرش وعباس، المصير الذي انتهى إليه سريعاً، ماجد الماجد، فالأول (الأطرش) لديه ارتباطات معروفة مع تيارات سياسية لبنانية وازنة، ومع جماعات وأمراء حرب في طرابلس والشمال، تحظى بالتغطية من سياسيين ورجال دين لبنانيين معروفين .... أما الثاني، فهو رجل العمليات الخاصة للقاعدة في لبنان، وقد اوردت صحف بيروت الصادرة بالأمس، معلومات عن نجاحه في تجنيد عناصر من وحدة الحماية الخاصة برئيس الحكومة اللبنانية الأسبق سعد الدين الحريري، وهي معلومات أعادت صحفٌ تأكيدها، برغم النفي الصادر عن جهات رسمية.
خلاصة القول، أن الشبكة المعقدة و»التحتانية» للعلاقات والارتباطات بين القوى اللبنانية وبعض المعارضات السورية وتنظيم القاعدة بفروعه المختلفة، مع أجهزة استخبارات عربية وإقليمية (وحتى دولية)، يمكن أن يجري «تفكيك» طلاسمها وألغازها، إن قُدّر للتحقيق أن يأخذ مجراه من دون تدخل جهات ضاغطة، تسعى في طمس الحقائق المتعلقة بأدوار قذرة تقوم به أطراف عدة، منغمسة من الرأس حتى أخمص القدمين في حروب المذاهب والطوائف المشتعلة في المنطقة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن رحيل ماجد الماجد أو ترحيله إلى «الحياة الآخرة»، ليس اللغز الوحيد الذي يراد له أن يدفن مع جثته التي وريت الثرى في السعودية، فهناك أيضاً واقعة الاعتداء على السفارة الإيرانية في بيروت، أو ما أطلقت عليه القاعدة «غزوة السفارة»، التي ما تزال كثيرٍ من فصولها غامضة، لجهة من خطط وأمر وقرر ونفذ، دع عنك عشرات عمليات الاغتيال والتفجير التي طالت مختلف المناطق والطوائف اللبنانية.
من تتبع التحقيقات و»التسريبات» مع الماجد والأطرش وعباس، يلحظ كم تماهى لبنان مع سوريا، وكيف «يتلازم» مسارا العنف والإرهاب في البلدين والساحتين ... فالسيارات يجري تفخيخها في «يبرود/القلمون»، وتنتقل كمحطة انتقالية إلى عرسال اللبنانية، لتنتهي بحصد الضحايا والأرواح في الضاحية الجنوبية لبيروت أو الهرمل.
وفي الأهداف التي لم يبلغها «الانتحاريون»، أدرجت المعلومات و»التسريبات»، السفارة الروسية في بيروت، وقناة المنار التابعة لحزب الله، امتداداً على ما يبدو لاستهداف كافة حلفاء النظام السوري، من دول ومنظمات، في الإقليم وعلى الساحة الدولية.
«كنز المعلومات» الذي وقع بين يدي الجيش اللبناني (يقال بمساعدة من جهاز استخباراتي دولي)، كفيل بالمساعدة في تكفيك الكثير من الألغاز والطلاسم، ودحض أو تثبيت بعض النظريات المتصلة بمدى تورط دول وأنظمة وحكومات وحركات، في دعم الإرهاب وتمويله وتيسير مهام انتحاريه، لذا نأمل أن نتمكن ذات يوم قريب، من قراءة محاضرة التحقيق ولوائح الاتهام والدفوع في ساحات المحاكم، فـ «التاريخ الجاري» لهذه المنطقة، هو في أحد فصوله الرئيسة، تاريخ الخروب الخفية بين الاستخبارات وأدواتها، الظاهر منها والمعلن، المتدثر بلبوس الحداثة والمدنية والغارق في ثقافة الكهوف التكفيرية سواء بسواء.