منذ عام 1994 لم تعد الفصائل الفلسطينية حركة تحرر وحسب، بل هي أو بعضها مارست السلطة، حيث صار لزاماً على الشعب أن يحاسبها على أدائها، وان يطالبها بممارسة الديموقراطية، طالما هي مارست الحكم، وان كانت سلطة منقوصة السيادة، وليست بكامل أو مطلق حريتها، بسبب كونها ما زالت سلطة تحت الاحتلال، بهذا القدر أو ذاك، ولكن حتى سلوكها تجاه الاحتلال، من حق الشعب أن يتابعه وان يحاسبها عليه، لذا ورغم كل ما نجم عن أوسلو من مساوئ، إلا أنه نجم عنها إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، بشكل دوري، وهذا أمر يحدث لأول مرة منذ أن تولت فصائل العمل الوطني المسؤولية السياسية، منذ العام 1996، وإن كان هذا الإنجاز الديموقراطي قد توفر، لنصف الشعب الفلسطيني، أي ذلك الجزء من الشعب الذي يقيم في الأراضي المحتلة منذ عام 1967، اي الضفة الغربية بما فيها القدس، وقطاع غزة .
لهذا السبب فإن السلطة تمثل مواطني الضفة والقدس وغزة، فيما تمثل "م ت ف" الشعب كله في الوطن والشتات، المهم في الأمر، انه توفرت للشعب الفلسطيني المقيم في وطنه، ان يقول كلمته في "أوسلو" وفي البرنامج السياسي الذي عاد به الراحل العظيم ياسر عرفات للوطن عام 94، وذلك في اول انتخابات تشريعية ورئاسية جرت عام 1996، ثم كانت انتخابات العام 2006 مناسبة ليحاسب الشعب حركة فتح وحلفاءها السياسيين الذين تولوا المسؤولية، على أداء السلطة خلال عشرة أعوام مضت قبل ذلك، وقد فعل، وأحدث " انقلابا " تمثل بفوز حركة حماس في تلك الانتخابات، والتي مضت عليها عشرة أعوام، بالتمام والكمال، لذا فإن إجراء الانتخابات الرئاسية والعامة، فضلا عن أن البعض يرى فيه إجراء من شأنه أن ينهي الانقسام، فإننا نرى فيه حقا للشعب وإجراء ديموقراطيا واجبا في كل الأحوال، حتى يحاسب الشعب قيادته خلال العشر سنوات التي مضت .
من الواضح بأنه إذا كان أهم ما حدث خلال السنوات العشر الأولى بعد تشكل السلطة، هو فشلها في التوصل للحل النهائي مع إسرائيل كما كان مقررا في عام 1999، وسوء الإدارة والفساد المالي، فانه يسجل الآن أن أسوأ ما حدث خلال العشر سنوات التالية هو الفشل في إقامة نظام الشراكة السياسي، وحدوث الانقسام، إضافة الى الفشل في تحقيق تقدم على صعيد إنهاء أو على الأقل انحسار الاحتلال الإسرائيلي، وفي هذا الشأن يتحمل طرفا السلطة المسؤولية، وأن كان ذلك بدرجتين متفاوتتين، فـ "حماس" مسؤولة عن فشل إقامة نظام الشراكة وعن إحداث الانقسام، و"فتح" مسؤولة عن العجز في التصدي للانقسام، وكذلك عن التعثر في التصدي بشكل أكثر فاعلية للاحتلال، وإنهائه، إن لم يكن بالمفاوضات، فبالمقاومة الشعبية، وربما لأن لـ "فتح" مشاكلها أيضا، رغم التحسن الذي طرأ على أوضاعها الداخلية بعد مؤتمرها السادس الذي انعقد في آب 2008، فقد طال عمر الانقسام، ورغم الاستعداد العالي الذي أبداه مواطنو غزة بالذات للتصدي لحكم "حماس"، إلا أن قيادة فتح " للمعارضة " في غزة، وقيادة "حماس" " للمعارضة " في الضفة، أضعف كثيرا من قدرة الشعب على تصحيح الأوضاع الوطنية الداخلية .
وأذا كانت أزمة "حماس" متعددة الأشكال، وتظهر واضحة في فشل خياراتها السياسية التي عقدتها على نجاح تحالف قطر، تركيا، الإخوان في قيادة المنطقة، في كسر الحصار عن غزة، وآخر مظاهره تواري القيادة المركزية للحركة عن الأنظار، وعن تولي مسؤولية إدارة غزة، حيث بات واضحا انها تركت شأن غزة وحتى شأن المصالحة، والشأن الداخلي كله لمنظمتها في غزة، فأن أزمة "فتح" هي الأخرى واضحة في ضعف منظمتها في غزة، حيث ان تتبع التشكيلات القيادية التي جرت عليها عدة تعديلات منذ عام 2007، رغم انه كانت هناك فرصة لإعادة الاعتبار لها وإعادة تشكيلها على أساس كفاحي، دليل على ذلك، ثم أن فتح تواجه ازمة داخلية تتمثل في تجديد قيادتها، وربما كان عقد مؤتمرها السابع، والذي يفترض ان يجري خلال هذا العام يعتبر مناسبة للخروج من مأزق، كون معظم قيادة "فتح" ممن تبقى من الجيل المؤسس والجيل الثاني، الذين تخطوا السبعين من العمر، وإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية يضع الحركة امام هذا الاستحقاق .
في زيارة الوفد القيادي الفتحاوي لغزة، تبين ان هناك مشاكل داخلية تواجه التنظيم، وان حركة حماس تطالب بتسوية أمور كادرها الوظيفي، والمتمثل في نحو 55 ألف موظف مدني وعسكري في غزة، حيث أن "حماس" تريد ان تضمن أية تسوية للانقسام الحفاظ على المكتسبات الوظيفية لهؤلاء، وربما يكون ذلك على حساب موظفي غزة من الفتحاويين وأنصارهم، الذي انتسبوا للسلطة منذ تأسيسها والى ان سيطرت "حماس" على القطاع .
المهم في الأمر كله ان أزمة "فتح" الداخلية ذات الطابع التنظيمي والتي تتمثل في ضرورة ان يتولى جيل شاب، ربما كان من قيادات ورموز التنظيم في الوطن ممن تتراوح أعمارهم بين الخمسين والستين قيادة الحركة، حيث ان ما يطرح بشأن استحداث منصب نائب الرئيس يعبر عن هذه المشكلة، وهنا يمكن القول بأن هناك ثلاثة مناصب يدور حولها الحديث، رئيس "م ت ف"، رئيس السلطة، ورئيس حركة فتح، وأزمة "حماس" الخارجية والمتمثلة في فشل مراهنتها على الحلفاء، وانكفاء قيادتها الخارجية عن التصدي لمواجهة مشاكل حكمها في غزة، المهم أن ازمتي الحركتين تنتجان مأزقا وطنيا يعاني من تبعاته الشعب الفلسطيني، بشكل مباشر ويؤثر على الحياة اليومية والعامة لنصف الشعب الفلسطيني، وبشكل سياسي بعيد المدى يؤثر سلباً على كل الشعب الفلسطيني، والذي بات عليه _ ربما _ أن ينضم الى الربيع العربي، ليصحح من مساره الوطني، وحتى يحقق طموحاته في التحرر والحرية والاستقلال.