فقط الكبار هم الذين يحررون كراماتهم، ويعتمدون على ثقة شعوبهم بهم، لكي يؤكدوا استقلال بلادهم في زمن، أصبح فيه استقلال الشعوب والدول نسبياً، وجعل بعضها، يفقد استقلاله، وهويته. فقط الكبار هم الذين يستطيعون أن يحققوا التحولات الكبرى، وأن يتحملوا أعباء عمليات التغيير المطلوبة والتي تخرج عن مألوف العلاقات الدولية السائدة في زمن الهيمنة الأميركية. الصغار يجدون لأنفسهم الذرائع والمبررات، لكي يخفوا ارتهانهم للدول الاستعمارية الكبرى، ويرهنون ثرواتهم، وكرامتهم تحت عنوان، الضعف وغياب القدرة على تحقيق أمنهم بدون حماية الأجنبي.
كان لا بد لمصر الثورة، أن تمضي في رسم صورتها ومكانتها الجديدة وأن تستعيد دورها كدولة كبرى في المنطقة لا يليق بها أن تظل متذيلة للولايات المتحدة، وأن تظل مرهونة، بل أن تضيف على اتفاقيات كامب ديفيد، التزامات ما كان ينبغي الالتزام بها.
إذا كانت الولايات المتحدة تدرس جيداً، التغيرات التي تقع في المنطقة، وفي دولة مركزية ومحورية مصر، فتستنتج من اللحظة الأولى، أن ما وقع في الثلاثين من حزيران العام الماضي، لا يستقيم مع مخططاتها، ويشكل انقلاباً عليها، ولذلك فإنها تتخذ بعض الخطوات العقابية، قبل أن ترتد رغماً عنها، فإن ذلك يشكل مؤشراً على القادم الجديد في مصر.
لا نقصد هنا الأسماء وإن كان المشير أول عبد الفتاح السيسي، هو اليوم عنوان مصر، وهو حامل ثورة التغيير، وإنما نقصد مصر الجديدة التي بدأت رحلة الانتفاض على نفسها، وعلى ما راكمته العقود من غبار السنين.
الزيارة التي قام بها وزير الدفاع المصري رفقة وزير الخارجية نبيل فهمي الى روسيا مؤخراً لم تكن فقط رداً على زيارة وزيري الدفاع والخارجية الروسيين للقاهرة، ففي مثل هذه الحالة لا مكان للمجاملات، ولا لمعاني الأخلاق، وإنما ينطوي الأمر على الخيارات السياسية.
لن نمر على جملة الاتفاقيات ومجالات التعاون التي جرى بحثها والاتفاق عليها وعلى ضرورة استمرار التعاون، فتلك ستكون مهما بدت متواضعة، مجرد مخرجات لخيارات جريئة وثورية تتخذها القيادة المصرية، في طريق تصحيح مسار تاريخي، اعتراه الاعوجاج، وتسبب في تدهور مكانة مصر ودورها. لا يمكن لا للولايات المتحدة، ولا لغيرها، من حلفائها وأتباعها، والمطبلين لها، أن يتهموا المشير السيسي، أو الدكتور فهمي، بأنهما شيوعيان وأن خيار استقبال قيادات روسية، وزيارة موسكو، يعود لكونهما أحمرين، أو شيوعيين ملحدين، فالرجلان معروفان بعمق التزامهما الإيماني ولكنهما أيضاً ملتزمان حتى العظم بحب بلدهم وشعبهم.
خلال مرحلة الرئيس السابق المعزول حسني مبارك، وامتدت لنحو ثلاثين سنة، فقدت مصر، الكثير من كرامتها، وفقدت دورها القيادي والمركزي العربي، وفقدت دورها الافريقي، فكان من السهل على الأقزام في المنطقة وافريقيا أن يتطاولوا، وأن يتجاوزوا الحدود، دون أن يجدوا رداً مناسباً يليق بمصر وشعبها وحضارتها العظيمة.
كان من الطبيعي إذاً، لأي قيادة مصرية، ترغب في أن تستجيب لنداء الشعب ولنداء التغيير وحتى تسمى الثورة باسمها الصحيح، أن تبادر إلى إعادة النظر في كل شيء تقريباً، بدءاً برد الوديعة (القرض) القطري، المشروط بفوائد عالية، مروراً بالبحث عن بدائل في السياسات الخارجية، بدون إلغاء الموجود وإنما بتصحيحه، وصولاً إلى تطبيق خارطة الطريق، نحو بناء نظام ديمقراطي مدني، يضع مصر في مكانها ومكانتها التي تستحق.
القرض القطري كان مجرد فخ، فوفق شروطه ومعدلات الفائدة عليه، لم يكن ممكناً لمصر في ظل أوضاعها الاقتصادية الصعبة، أن تسدده، ما كان سيؤدي إلى مضاعفة الدين خلال سنوات قليلة، ومن خلالها تعتقد قطر أنها ستحظى بتأثير متزايد في اتجاهات السياسة المصرية.
من يريد أن يساعد مصر ويساعد نفسه، ويدرأ عن بلاده المؤامرات والمخططات الاستعمارية التي تستهدف كل دول المنطقة، كان عليه أن يقدم مساعدات نزيهة للاقتصاد المصري، كما تفعل دول الإمارات والعربية السعودية والكويت، فبعض هذه المساعدات عبارة عن هبات غير مستردة، وبعضها الآخر قروض بدون فوائد أو ميسّرة، وبعضها عبارة عن استثمارات، أو شراكات مع شركاء مصريين.
ربما تعتقد الولايات المتحدة، التي تتصرف بناء لمصالحها وفقط مصالحها ومصالح حليفتها إسرائيل، ربما تعتقد أن مصر يمكن أن ترتهن للمساعدات التي تقدمها، منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، وهي مساعدات محدودة قياساً بإمكانيات وحاجات دولة كبيرة مثل مصر. وربما تعتقد الولايات المتحدة، أنه لن يكون من السهل على القيادة المصرية أن تجازف في تغيير مساراتها وتحالفاتها وخياراتها طالما أن الجيش المصري، جرى إعادة بنائه بالاعتماد على الأسلحة الغربية، لكن مثل هذه الاعتقادات يمكن أن تشكل كابحاً لعملية التغيير فقط بالنسبة للضعفاء من القادة وللمرتهنين للإرادة الأميركية.
في زمن التحول عن النظام الدولي أحادي القطب، وولوج المجتمع الدولي مرحلة نظام دولي جديد متعدد القطبية، يصبح من الضروري لكل دولة تبحث عن كرامة شعبها، وتبحث عن نهضتها، وتقدمها، أن تفكك قيود الماضي، وأن تبحث عن خيارات جديدة بدون افتعال عداوات غير ضرورية.
من ذلك كان على الفلسطينيين أن يفعلوا ذلك منذ زمن بعيد، خصوصاً وأنهم اكتشفوا مبكراً، أن الطريق إلى القدس والدولة والحقوق لا يمر بالضرورة عبر واشنطن التي يتضح يوماً بعد آخر أنها إما أن تتطابق سياساتها ومصالحها مع سياسات ومصالح إسرائيل وإما أن تقترب منها كثيراً.
إن التردد عن اتخاذ القرارات السليمة في الوقت المناسب، من شأنه أن يلحق أفدح الأضرار بالمصالح والتطلعات الوطنية، وكان ينبغي أن يبدأ الفلسطينيون رحلة التحول نحو خيارات جديدة، منذ أن اختاروا الذهاب إلى الأمم المتحدة. كان عليهم أن يتابعوا سيرهم نحو الأمم المتحدة، بدون افتعال، وأن يتابعوا البحث عن خيارات وحلفاء جدد، بدون أن يركنوا إلى أن حلفاءهم التقليديين سيهبون لنجدتهم من دون دعوة أو طلب. في الواقع حققت إسرائيل اختراقات في مجال العلاقات والتحالفات الحيوية للفلسطينيين، مقابل التردد الذي يعتري السياسة الفلسطينية، التي عليها أن تعرف ماذا ستفعل في اليوم التالي لفشل المفاوضات، والمحاولات الأميركية لتحقيق التسوية.