بدلا من ان ننشغل بفزاعة الوطن البديل ، يجب ان نسأل انفسنا ما الذي قدمناه لبناء الوطن الاصيل؟ سيفاجئنا هذا السؤال اذا صارحنا انفسنا بالاجابة عليه بعيدا عن المجاملات والانطباعات العابرة،وسنكتشف باننا في دوامة الاشتباكات والسجالات التي انتهت بنا الى المزيد من الانقسام وتبادل الاتهامات والمخاوف ، ضيعنا فرصة البناء: بناء الانسان والمجتمع والدولة الحديثة، ووقفنا على الشرفة - متفرجين- نطارد بسيوف خشيبة اوهام البدائل المتوقعة والسيناريوهات المصدرة والاحلام المريضة التي حولت حياتنا الى كوابيس.
كان يمكن بالطبع ان نتذكر بأن الاوطان لا يمكن ان تستبدل ،فلا احد يرضى بالبدائل حتى وان كانت من ذهب ، ولا يمكن للاوطان ايضا ان تتنازل عن هويتها الا اذا استغرق ابناؤها في سباتهم وقرروا شطب ذاكرتهم ،والعربي لا يمكن ان يفعل ذلك، لان التراب الذي جبلت به شخصيته -مهما شدته نوازع السقوط- يمنعه من اقتراف هذه الجريمة.
الخوف ليس من الوطن البديل ،فبلادنا تعرضت اكثر من غيرها لموجات من اللجوء والهجرة ،واخواننا العراقيون والمصريون والسوريون ،وقبلهم الفلسطينيون ، اصبحوا جزءا من هذا الوطن بمعناه الانساني العام ،وان كان لهم اوطانهم العزيزة عليهم ،لكن الخوف هو من عدم قدرتنا على الخروج من هذه الهواجس لانجاز المشروع الوطني الذي بناه اجدادنا على اساس العروبة الجامعة والاسلام الحضاري ، حيث القيم المعتبرة لاقامة الدولة العادلة بما تعنيه في قواميس السياسة اليوم من ديمقراطية وحرية واكتفاء ذاتي وعدالة اجتماعية وتوافق وطني على المصالح العامة .
لقد تأخرنا فعلا عن حسم اشكالية السؤال الذي يحيرنا : من هو الاردني حقا؟ ومن المفارقات ان سؤال الهوية هذا الذي تصورنا ان غيرنا قد حسمه عاد مرة اخرى الى السطح في مرحلة نهضة الشعوب نحو استعادة الاعتبار اليها ، ففي مصر مثلا تعلو اليوم اصوات (احنا شعب وانتم شعب ) ،وفي السودان وسوريا والعراق وليبيا واليمن وغيرها تتردد ايضا الاصوات ذاتها، وكأن المطلوب من امتنا اليوم ان تعيد تعريف هويتها على اسس جديدة لا علاقة لها بالدين والحضارة واللغة والدم التي هي المقومات الاساسية للامة التي كانت ذات تاريخ لا تغيب عنها الشمس.
قي بلادنا انتصرت المصاهرات الاجتماعية على المصاهرات السياسية، واندمج الجميع تحت الاحساس بالخطر والدفاع عن الوجود في بوتقة (الوطنية) التي تعني الالتصاق بالتراب المبارك الذي طهره الانبياء الذين مروا من هنا والفاتحون الذين ما تزال مقاماتهم تذكرنا بقيمة الشهادة والتضحية والاخلاص للرسالة،لكننا للاسف في زحمة الدعوات الى المحاصصة وتقسيم التركات نسينا ان لدينا رسالة اهم من الصراع على مناصب السياسة و لدينا مشروع انساني واخلاقي ووطني يحتاج بناؤه الى التوحد والتوافق ،لا الى التراشق والتشتت، و لدى عدونا نوايا مبيتة وخطط جاهزة لاغراقنا في دوامة الجدل والحيرة، فالمطلوب ليس فلسطين فقط وانما العروبة والاسلام سواء تشكلت في اوطان او في مشاريع وافكار .
لا بد اليوم ان نصارح انفسنا :من هو الاردني ومن هو الوطني ،وما هي الوطنية التي نريدها،من هو المواطن الجيد ومن هو الانسان القادر على ترجمة هذه القيم والمفاهيم بعيدا عن الالوان والاجناس والاختلاف في الافكار والاديان والمذاهب السياسية، هذه بالطبع مشكلة النخب فالناس الذي اجتمعوا على مصاهرات النسب وتوحدوا على مبادئ الخؤولة والعمومة لا تشغلهم مثل هذه التقسيمات والاستقواءات ، وهي ايضا مشكلتنا مع السياسة التي ما تزال غارقة في لغة الاستبعاد والاقصاء ، ومشكلتنا ايضا في تقديم منطق الهدم على منطق البناء واستسهال الكلام على حساب العمل ، وما لم نخرج من هذه العطالة السياسية التي اورثتنا ما نعانيه من انسدادات وازمات فان اوهاما كثيرة ستبقى تطاردنا ،ليس فقط (وهم الوطن البديل )،وانما ايضا اوهام العدالة والديمقراطية التي ما تزال تشكل طموحات الاغلبية في المجتمع فيما هي لدى البعض مجرد احساس مفزع بسبب اعتقادهم بانها ستجردهم من امتيازاتهم او تكشف اخطاءهم او تطردهم خارج الحلبة.
باختصار ، لا يمكن ان نتعافى من الاوهام التي تطاردنا او ان نواجه الاخطار الحقيقية التي تحدق بنا - وما اكثرها - الا اذا انحزنا لمشروع الوطن الواحد ،وطن العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص للجميع، وتوافقنا على اساس المواطنة العادلة التي تستوعب الجميع في اطار الانتاج والاخلاص والانتماء الصادق غير المغشوش، وهذه كلها تحتاج الى مجتمع تتقدم فيه الافكار على الاشخاص ،والقيم والممارسات على المصالح الذاتية والتوظيفات المسمومة ، والى دولة ديمقراطية حديثة تحترم قيمة الانسان وحقوقة ، وعندها فقط يصبح السؤال عن الوطن الاصيل الذي يكفل لكل من يعيش فيه ما يحتاجه من مستلزمات الكرامة والعيش الكريم هو السؤال الحقيقي ويبدو الكلام عن البديل -اي بديل- صوتا ناشزا لا يلتفت اليه احد.