أخر الأخبار
نص الوثيقة الأمنية الداخلية لجماعة الإخوان المسلمي
نص الوثيقة الأمنية الداخلية لجماعة الإخوان المسلمي

 

القاهرة - الكاشف نيوز : 
وزعت جماعة الاخوان المسلمين في مصر وثيقة أمنية على بعض المكاتب الإدارية للجماعة , اعتبرت فيها الجانب الأمنى عند الجماعة «سنة شرعية وخلقاً إيمانياً، وسلوكاً إسلامياً والمخل به يدخل فى دائرة المعصية، ومفرط فى أسباب النصر والتمكين».
وعرَّفت الوثيقة الثقافة الأمنية بأنها «الإدراك العام للعمل الأمنى عند خصوم الدعوة، كمعرفة مؤسساتهم ومناهجهم فى التجنيد وطرقهم فى الاختراق وأدوارهم فى زرع الفتنة وأساليبهم فى التجسس، إعمالاً لقوله تعالى: (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)»، مشيرة إلى أن الإدراك الجيد لوسائل خصوم الدعوة صراع بين الحق والباطل لا ينكره إلا جاهل أو مجادل.
وذكرت الوثيقة بعض الأسس الأمنية منها «الاطلاع على واقع الخصوم، والتأسى بالنبى صلى الله عليه وسلم فى بذل الجهد لمعرفة الأحداث عن قرب».
إدراك العمل الأمنى عند خصوم الدعوة ومعرفة مؤسساتهم ومناهجهم فى التجنيد وطرقهم فى الاختراق وأدوارهم فى زرع الفتنة وأساليبهم فى التجسس
وعرَّفت الوثيقة الانضباط التنظيمى بــ«انضباط كمال الطاعة لقيادة الجماعة، وذلك باستئذانها فيما ينبغى أن يفعل، وكيف ومتى، وبالتنفيذ الدقيق لأوامرها». وأشارت الوثيقة لما سمته «تحطم جهود كثير من العاملين -وما زالت- نتيجة التفريط الكبير فى هذه السُّنة، فإن غياب هذا الجانب -وعياً وممارسة- أدى إلى إجهاض الأعمال واكتشاف الأسرار وضياع الفرص وذهاب الرجال ونشر الفتنة».
وتطرقت الوثيقة لعقيدة الاستعلاء الإيمانى، معتبرة أن ترسيخ معانى العقيدة الإسلامية فى نفوس المؤمنين هو الذى يمنح المسلم الإرادة ويحميه من الوهن والضعف أمام مكر مخابرات الأعداء. وحثت على الاهتمام بالتجسيد العملى للأخلاق الإسلامية، كخلق كتم الأسرار واليقظة والحذر لأن اليقظة والحذر سببان فى تحقيق الأمن شرعاً وقدراً.
وأشارت الوثيقة إلى أن الانتباه الدائم يكون بترك الغفلة واستصحاب اليقظة، وألا يكون المسلم «سبهللا»، بينما عرفت لطافة الحركة بــ«التى لا تُحدث ضجة ولا تثير غباراً ولا تترك أثراً بجانب المعرفة الجيدة، والتقدم التكنولوجى».
وحثَّت الوثيقة أعضاء «الجماعة» على الإسراع إلى الإخبار عن الأخطاء؛ ليتجنب الدعاة آثارها السلبية، مشددة على حسن التعامل مع المعلومات، ما يذاع منها وما لا يذاع، وكيف، ومتى، وذلك لا يتحقق إلا بالالتزام بضوابط «الجماعة»، واجتناب التقدير الشخصى للمواقف.
واعتبرت أن سرية التحرك وحفظ أمانة المجالس وكتم أسرارها، والانسحاب من المعارك الثانوية، وترك التداول العفوى للمعلومات والتباهى بها والتكيف المرن مع معطيات الواقع، من أبجديات هذه الضوابط.
وجاء نص الوثيقة كالتالى:
لا يخفى على أحد ما يُحاك وما يُدبر هذه الأيام لدعوتنا، دعوة الخير والرشاد، دعوة الإخوان المسلمين، وهو أمر ليس بالغريب على أصحاب الدعوات الصادقين الصابرين المجاهدين، ونحن مع إدراكنا التام أن دعوتنا فى النهاية منصورة بأمر ربها، وأننا ستار للقُدرة حتى نأخذ الأُجرة، فنحن نبذل الجهد ونُرِىَ الله من أنفسنا خيراً حتى نرضى ربنا أولاً ونقيم حجة التبليغ وأداء الواجب على الناس جميعاً ثانياً، وخاصة فى هذه الأوقات حتى لا نُشمِّت فينا خصماً ولا جهولاً.
الانضباط التنظيمى هو كمال الطاعة لقيادات «الجماعة» والتنفيذ الدقيق لأوامرها واستئذانها فيما ينبغى أن تفعل
نعم نحن نؤمن أن كل شىء بقضاء الله وتدبيره، وأن لهذا الكون إلهاً يدبر أمره، ولكننا نأخذ بأسباب النصر والتمكين ولا نبالى بوعد ولا وعيد، ولا إغراء ولا تهديد بل شعارنا «فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا». نعم ننطلق ونحن نضع أمام أعيننا هذا النموذج الكريم الذى أرسى قواعده وأسسه نبى الله موسى، عليه السلام، والذى كان شعاره «وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى». أقول: نقتدى به حين أحاط به الطغاة الظالمون من كل وادٍ سحيق وفج عميق، فأرغدوا وأزبدوا وهددوا وتوعدوا، وتآمروا ومكروا قائلين: «سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ». فما ذا كان موقفه وحاله: «اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»، وهذا هو منطلقنا وذاك طريقنا «اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ»، وللاستعانة بالله والصبر على الطريق صور كثيرة ومتعددة وجوانب متنوعة تحتاج إلى دراسات وأبحاث وبرامج، ولكننا نريد فى هذه الرسالة أن نأخذ جانبا -نراه هاماً- يتناسب مع طبيعة المرحلة وحالنا يقتضى التنبيه إليه والوقوف عليه وهو خلق الحذر، وهو من سبل الاستعانة بالله، ومسلك من مسالك الصابرين كما سينجلى فيما بعد. ولكننا نود الإشارة إلى أن لفظ «الحذر» ورد فى القرآن الكريم بتصاريف الكلمة المختلفة إحدى وعشرين مرة، وهذا يبرز أهميته كخلق فردى وخلق جماعى وقيمة تربوية علينا أن نتربى عليها حتى يكون سلوكاً نعبد به ربنا سبحانه ونتقرب إليه.
أهمية الجانب الأمنى (خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا)
أولاً: إن أخذ الحذر -أو ما يصطلح على تسميته اليوم بالجانب الأمنى -سُنة شرعية المخل بها داخل فى دائرة المعصية، ومفرط فى أسباب النصر والتمكين، قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً»، «وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ»، ومن ينظر بعين الاعتبار يجد أن الله جل وعلا يقول فى شأن موسى: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا»، وفى شأن إبراهيم عليه السلام: «قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا»، وفى شأن أُم موسى: «وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ»، وفى شأن أصحاب الكهف: «وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً»، وفى شأن بعض أتباع موسى: «وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ»، وقال الله جل وعلا فى شأن الأنبياء: «أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ».
ومن يتدبر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجد الحضور المتميز للجانب الأمنى فى عمله لهذا الدين، فتأمل الاحتياطات الأمنية التى اتخذت فى مكة، وتأمل الدروس الأمنية المستخرجة من الهجرة، وانظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو لا يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، قال ابن القيم فى قوله تعالى «وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»: فإن هذا الضمان من ربه تبارك وتعالى لا يناقض احتراسه من الناس ولا ينافيه، كما أن إخبار الله سبحانه له بأنه يظهر دينه على الدين كله ويعليه لا يناقض أمره بالقتال وإعداد العدة والقوة ورباط الخيل، والأخذ بالجد والحذر والاحتراز من عدوه، ومحاربته بأنواع الحرب والتورية.
ونظراً لصدق التلقى وصفاء اللقاء وإخلاص القصد تمكن الفهم العميق لهذا الجانب من نفوس الصحابة، فترجموه إلى واقع عملى نموذجى، فهذا أنس بن مالك، وهو غلام يقول: «فبعثنى -أى رسول الله- فى حاجة، فأبطأت على أمى، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ فقلت: بعثنى رسول الله لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر».
وهذا العباس يقول لابنه عبدالله: «إنى أرى هذا الرجل -يعنى عمر بن الخطاب- يقدمك على الأشياخ -يعنى كبار الصحابة- فاحفظ عنى خمساً: لا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يجربن عليك كذباً، ولا تعصين له أمراً، ولا يطلعن منك على خيانة»، والكلام طويل والعمر قصير والمقام لا يتسع، والمقصود الإشارة التى تكفى اللبيب.
الأمر الثانى: إن أخذ الحذر إضافة إلى كونه سُنة شرعية يأثم المسلم بالتفريط فيها، هو كذلك سنة كونية أمرنا باعتبارها، بل تسخيرها لخدمة الحق الذى نؤمن به، فـ«الحكمة ضالة المؤمن، فحيثما وجدها فهو أحق بها»، وقد تحطمت جهود كثير من العاملين -وما زالت- نتيجة التفريط الكبير فى هذه السنة، فإن غياب هذا الجانب -وعياً وممارسة- أدى إلى إجهاض الأعمال واكتشاف الأسرار وضياع الفرص وذهاب الرجال ونشر الفتنة، «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الْأَبْصَارِ»، أفلم يأنِ لنا أن نستحضر هذا الجانب ونعتبره عند التخطيط والتنفيذ لكل عمل؟ ليس جبناً ولا خوفاً من اللقاء، لا والله، ولكن الهدف كبير «إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً»، ودون هذا الهدف سنن سير الله بمقتضاها هذه الحياة، فلا تعاندوها فإنها غلابة، «فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً».
ترسيخ عقيدة الاستعلاء الإيمانى الذى يمنح المسلم الإرادة ويحميه من الوهن والضعف أمام مكر مخابرات الأعداء
أسس ومنطلقات الحذر
الأساس الأول: تحقيق معانى الربانية:
- ونقصد بالربانية انضباط سلوك المسلم -الظاهر والباطن- وفق مقتضى شرع ربه جل وعلا، قال تعالى: «وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ»؛ لأن ربانية المسلم تعنى طاعته لله جل وعلا، وهذه الطاعة هى سرّ النصر والأمن، قال سبحانه: «وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً* وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً»، ومن هذا الخير حفظهم من كيد أعدائهم «ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِين»، كما أن ربانية المسلم توجب ولاية الله جل وعلا له، ومن تولاه الله جل وعلا حفظه من شر أعدائه، فإنه سبحانه القائل: «فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».
وأهم ما يجب الاهتمام به فى هذا الباب ترسيخ معانى العقيدة الإسلامية فى نفوس المؤمنين كعقيدة الاستعلاء الإيمانى الذى يمنح المسلم الإرادة ويحميه من الوهن والضعف أمام مكر مخابرات الأعداء.
- الاهتمام بالتجسيد العملى للأخلاق الإسلامية، كخلق كتم الأسرار، فعن أنس بن مالك قال: «أسر إلىّ النبى صلى الله عليه وسلم سراً، فما أخبرت به أحداً بعده، ولقد سألتنى عنه أم سليم فما أخبرتها به»، و«إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهى أمانة»، وخلق «ترك المرء ما لا يعنيه»، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وخلق ترك كثرة الكلام، قال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع»، فإنك لو تأملت المصائب الأمنية التى يبتلى بها العمل الدعوى اليوم لوجدت أن إفشاء الأسرار، تصريحاً وتلويحاً، وقصداً وتهاوناً، واجتهاد المرء فى تتبع ما لا يعنيه من المعلومات واحتراف الثرثرة.. تلك القائمة من الأخلاق المذمومة هى أهم الأسباب التى ما زالت تنخر فى جسم العمل الإسلامى، وما بمثل هذه الأخلاق يتنزل النصر، «وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ».
الأساس الثانى: اليقظة والحذر: لأن اليقظة والحذر سبب فى تحقيق الأمن شرعاً وقدراً، قال الله جل وعلا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ»، «وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ».
أهم ما يحقق هذا الأساس:
- الانتباه الدائم: ونعنى بالانتباه ترك الغفلة واستصحاب اليقظة، وألا يكون المسلم «سبهللا» لا يدرى ما يدور حوله أو ما يحاك ضده، قال عمر بن الخطاب: «لست بالخب ولا الخب يخدعنى»، فلسنا مخادعين ولا ماكرين، ولكن المؤمن كيِّس فطن، «ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين».
- الكلمة المسئولة: قال سبحانه وتعالى: «مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»، وما على الأرض شىء أحوج إلى طول السجن من اللسان، ومن هذه المسئولية ترك التداول العفوى والمجانى للمعلومات، فما كل ما يعلم يقال، وما كل ما يقال قد حضر أهله، ولا كل ما حضر أهله قد حان وقته، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهل يكب الناس فى النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم».
- لطافة الحركة: ونقصد بها الحركة التى لا تُحدث ضجة ولا تثير غباراً ولا تترك أثراً، قال جل وعلا: «وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً»، ومن لطافة الحركة كسر روتينيتها، واعتماد السرية واستعمال التورية فيها، قال جل وعلا: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ».
- تناسب المظهر، قال ابن تيمية رحمه الله: وسبب ذلك -أى عدم المخالفة فى الهدى الظاهر- أن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه، كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون فى أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك.. وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة لهم تختلف باختلاف الزمان والمكان ظهرت حقيقة الأحاديث فى هذا، وليس المقصود التأصيل، ولكن تأمل واسأل العاملين، ولا ينبئك مثل خبير.
الأساس الثالث: الإدراك الجيد لوسائل خصوم الدعوة: إن الصراع بين الحق والباطل قائم لا ينكره إلا جاهل أو مجادل، والأصل أن كل واحد يعمل لما ينتمى إليه، «قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ»، ومن العمل الذى يحقق تأمين العمل الإسلامى الإدراك الجيد لوسائل خصوم الدعوة فى الجانب الأمنى؛ لأنه يمكننا من معرفة مكامن ضعفهم وإبطال مفعول مكرهم، «وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ»، قال تعالى: «وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ».
ويتحقق هذا الإدراك بأمور كثيرة أهمها:
- الوعى بالسنن الكونية: والمعرفة الجيدة، والتقدم التكنولوجى، خاصة ما يتعلق بالجانب الأمنى كمعرفة أجهزة الاتصال وأدوات الرصد والتنصت.. إلخ، فإنما هى سنن مسخرة.
- الثقافة الأمنية: وهى الإدراك العام للعمل الأمنى عند خصوم الدعوة، كمعرفة مؤسساتهم ومناهجهم فى التجنيد وطرقهم فى الاختراق وأدوارهم فى زرع الفتنة وأساليبهم فى التجسس، «وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ».
- الاطلاع على واقع الخصوم: والتأسى بالنبى صلى الله عليه وسلم فى بذل الجهد لمعرفة الأحداث عن قرب، وقصة الرسول صلى الله عليه وسلم وأبى بكر مع الأعرابى يوم بدر معروفة، وما طلبه من حذيفة بن اليمان يوم الأحزاب غير خافٍ على من يهتم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأساس الرابع: الانضباط التنظيمى: ومعنى الانضباط كمال الطاعة لقيادة «الجماعة»، وذلك باستئذانها فيما ينبغى أن يفعل، وكيف ومتى، وبالتنفيذ الدقيق لأوامرها، قال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنكُمْ»، فالمسلم الذى انطبعت فى نفسه هذه المعانى، وتجسدت بصدق فى سلوكه واقعاً عملياً يجنب نفسه وإخوانه ويلات السلوكيات الفردية، والتقدير الشخصى للمواقف؛ لأن الانضباط تحقيق لمراد الله جل وعلا، وقد قال سبحانه: «وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتا»، كما أنه استجابة لرأى من هم أكثر علماً بالمعطيات، وأقدر على معرفة المآلات، وقد قال تعالى: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ».
وأهم ما يحقق هذا الأساس هو:
- إدراك علاقة الأمن بالانضباط: ونقصد به تعميق الوعى بالعلاقة الوطيدة -شرعاً وقدراً- بين الانضباط التنظيمى وتأمين العمل الإسلامى، وفى أحداث معركة أحد خير دليل على ذلك.
- ترسيخ خلق الاستئذان: ونقصد به الاعتياد على أخذ رأى المسئول قبل الإقدام على العمل، واجتناب التقدير الشخصى للمواقف، قال سبحانه: «وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ».
- الاعتراف بالخطأ: وذلك بالإسراع إلى الإخبار عن الأخطاء؛ ليتجنب الدعاة آثارها السلبية، «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ».
- حسن التعامل مع المعلومات: ما يذاع منها وما لا يذاع، وكيف، ومتى، وذلك لا يتحقق إلا بالالتزام بضوابط «الجماعة»، «وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ».
إن هذا النوع من السلوك يتطلب مستوى معيناً من الوعى الشرعى والتربية الإيمانية والثقافة الكونية، ولكنى أعلم كذلك أن السذاجة والغفلة والبساطة والاسترخاء لا يمكن أن تبنى مجداً إسلامياً، ولا أن ترجع العز المسلوب، فلا خيار إلا باستحضار «أسس التدارك» واتباع «سبل الارتقاء»، فإنه حقيقة «وَقُلْ اعْمَلْوا»، وطريق إعداد «مِنَ الْمُؤمِنِينَ رِجَالٌ»، واعلم أنه من يصدق الله يصدقه.
- إن الإدراك الجيد لهذه الأسس جميعها والوعى العميق بدلالاتها يدفع القائمين على أى عمل لهذا الدين إلى إيجاد الصيغ والضوابط الكفيلة بتأمين عملهم استجابة لـ«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ»، ولا بد لهذه الصيغ والضوابط من أن تراعى طبيعة المنهج الذى يحمله العاملون، وطبيعة المرحلة التى يمرون بها، وطبيعة البيئة التى يعملون فيها.. إلخ، وعموماً تعد سرية التحرك، وحفظ أمانة المجالس وكتم أسرارها، والانسحاب من المعارك الثانوية، وترك التداول العفوى للمعلومات والتباهى بها والتكيف المرن مع معطيات الواقع.. إلخ، من أبجديات هذه الضوابط، وتعد الجدية فى التطبيق واستفراغ الوسع فى حسن التنزيل من دلائل الصدق فى التلقى فـ«قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ».
- أخذ الحذر وعى وسلوك يمكن المسلم من بلوغ أهدافه وحفظ مكتسباته، وليس هاجساً يغرس فى نفوس الشباب ليقعدوا عن العمل لهذا الدين؛ ولذلك لا بد من إيجاد التوازن الدقيق بين أخذ الحذر والعمل، وذلك بعدم ترك العمل والركون إلى القعود مهما قست الظروف وغلت التضحيات، وإنما يكون الموقف الصحيح بتكييف العمل مع المعطيات الجديدة تكييفاً يحمل فى طياته معانى الشجاعة والثبات، إضافة إلى معانى الوعى والذكاء، مستحضرين قوله تعالى: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»، وهذا الجمع المتوازن بين الحذر والعمل هو المعنى المشار إليه فى قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً».

القاهرة - الكاشف نيوز : 
وزعت جماعة الاخوان المسلمين في مصر وثيقة أمنية على بعض المكاتب الإدارية للجماعة , اعتبرت فيها الجانب الأمنى عند الجماعة «سنة شرعية وخلقاً إيمانياً، وسلوكاً إسلامياً والمخل به يدخل فى دائرة المعصية، ومفرط فى أسباب النصر والتمكين».
وعرَّفت الوثيقة الثقافة الأمنية بأنها «الإدراك العام للعمل الأمنى عند خصوم الدعوة، كمعرفة مؤسساتهم ومناهجهم فى التجنيد وطرقهم فى الاختراق وأدوارهم فى زرع الفتنة وأساليبهم فى التجسس، إعمالاً لقوله تعالى: (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)»، مشيرة إلى أن الإدراك الجيد لوسائل خصوم الدعوة صراع بين الحق والباطل لا ينكره إلا جاهل أو مجادل.
وذكرت الوثيقة بعض الأسس الأمنية منها «الاطلاع على واقع الخصوم، والتأسى بالنبى صلى الله عليه وسلم فى بذل الجهد لمعرفة الأحداث عن قرب».
إدراك العمل الأمنى عند خصوم الدعوة ومعرفة مؤسساتهم ومناهجهم فى التجنيد وطرقهم فى الاختراق وأدوارهم فى زرع الفتنة وأساليبهم فى التجسس
وعرَّفت الوثيقة الانضباط التنظيمى بــ«انضباط كمال الطاعة لقيادة الجماعة، وذلك باستئذانها فيما ينبغى أن يفعل، وكيف ومتى، وبالتنفيذ الدقيق لأوامرها». وأشارت الوثيقة لما سمته «تحطم جهود كثير من العاملين -وما زالت- نتيجة التفريط الكبير فى هذه السُّنة، فإن غياب هذا الجانب -وعياً وممارسة- أدى إلى إجهاض الأعمال واكتشاف الأسرار وضياع الفرص وذهاب الرجال ونشر الفتنة».
وتطرقت الوثيقة لعقيدة الاستعلاء الإيمانى، معتبرة أن ترسيخ معانى العقيدة الإسلامية فى نفوس المؤمنين هو الذى يمنح المسلم الإرادة ويحميه من الوهن والضعف أمام مكر مخابرات الأعداء. وحثت على الاهتمام بالتجسيد العملى للأخلاق الإسلامية، كخلق كتم الأسرار واليقظة والحذر لأن اليقظة والحذر سببان فى تحقيق الأمن شرعاً وقدراً.
وأشارت الوثيقة إلى أن الانتباه الدائم يكون بترك الغفلة واستصحاب اليقظة، وألا يكون المسلم «سبهللا»، بينما عرفت لطافة الحركة بــ«التى لا تُحدث ضجة ولا تثير غباراً ولا تترك أثراً بجانب المعرفة الجيدة، والتقدم التكنولوجى».
وحثَّت الوثيقة أعضاء «الجماعة» على الإسراع إلى الإخبار عن الأخطاء؛ ليتجنب الدعاة آثارها السلبية، مشددة على حسن التعامل مع المعلومات، ما يذاع منها وما لا يذاع، وكيف، ومتى، وذلك لا يتحقق إلا بالالتزام بضوابط «الجماعة»، واجتناب التقدير الشخصى للمواقف.
واعتبرت أن سرية التحرك وحفظ أمانة المجالس وكتم أسرارها، والانسحاب من المعارك الثانوية، وترك التداول العفوى للمعلومات والتباهى بها والتكيف المرن مع معطيات الواقع، من أبجديات هذه الضوابط.
وجاء نص الوثيقة كالتالى:
لا يخفى على أحد ما يُحاك وما يُدبر هذه الأيام لدعوتنا، دعوة الخير والرشاد، دعوة الإخوان المسلمين، وهو أمر ليس بالغريب على أصحاب الدعوات الصادقين الصابرين المجاهدين، ونحن مع إدراكنا التام أن دعوتنا فى النهاية منصورة بأمر ربها، وأننا ستار للقُدرة حتى نأخذ الأُجرة، فنحن نبذل الجهد ونُرِىَ الله من أنفسنا خيراً حتى نرضى ربنا أولاً ونقيم حجة التبليغ وأداء الواجب على الناس جميعاً ثانياً، وخاصة فى هذه الأوقات حتى لا نُشمِّت فينا خصماً ولا جهولاً.
الانضباط التنظيمى هو كمال الطاعة لقيادات «الجماعة» والتنفيذ الدقيق لأوامرها واستئذانها فيما ينبغى أن تفعل
نعم نحن نؤمن أن كل شىء بقضاء الله وتدبيره، وأن لهذا الكون إلهاً يدبر أمره، ولكننا نأخذ بأسباب النصر والتمكين ولا نبالى بوعد ولا وعيد، ولا إغراء ولا تهديد بل شعارنا «فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا». نعم ننطلق ونحن نضع أمام أعيننا هذا النموذج الكريم الذى أرسى قواعده وأسسه نبى الله موسى، عليه السلام، والذى كان شعاره «وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى». أقول: نقتدى به حين أحاط به الطغاة الظالمون من كل وادٍ سحيق وفج عميق، فأرغدوا وأزبدوا وهددوا وتوعدوا، وتآمروا ومكروا قائلين: «سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ». فما ذا كان موقفه وحاله: «اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»، وهذا هو منطلقنا وذاك طريقنا «اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ»، وللاستعانة بالله والصبر على الطريق صور كثيرة ومتعددة وجوانب متنوعة تحتاج إلى دراسات وأبحاث وبرامج، ولكننا نريد فى هذه الرسالة أن نأخذ جانبا -نراه هاماً- يتناسب مع طبيعة المرحلة وحالنا يقتضى التنبيه إليه والوقوف عليه وهو خلق الحذر، وهو من سبل الاستعانة بالله، ومسلك من مسالك الصابرين كما سينجلى فيما بعد. ولكننا نود الإشارة إلى أن لفظ «الحذر» ورد فى القرآن الكريم بتصاريف الكلمة المختلفة إحدى وعشرين مرة، وهذا يبرز أهميته كخلق فردى وخلق جماعى وقيمة تربوية علينا أن نتربى عليها حتى يكون سلوكاً نعبد به ربنا سبحانه ونتقرب إليه.
أهمية الجانب الأمنى (خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا)
أولاً: إن أخذ الحذر -أو ما يصطلح على تسميته اليوم بالجانب الأمنى -سُنة شرعية المخل بها داخل فى دائرة المعصية، ومفرط فى أسباب النصر والتمكين، قال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً»، «وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ»، ومن ينظر بعين الاعتبار يجد أن الله جل وعلا يقول فى شأن موسى: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا»، وفى شأن إبراهيم عليه السلام: «قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا»، وفى شأن أُم موسى: «وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ»، وفى شأن أصحاب الكهف: «وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً»، وفى شأن بعض أتباع موسى: «وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ»، وقال الله جل وعلا فى شأن الأنبياء: «أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ».
ومن يتدبر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجد الحضور المتميز للجانب الأمنى فى عمله لهذا الدين، فتأمل الاحتياطات الأمنية التى اتخذت فى مكة، وتأمل الدروس الأمنية المستخرجة من الهجرة، وانظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو لا يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، قال ابن القيم فى قوله تعالى «وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»: فإن هذا الضمان من ربه تبارك وتعالى لا يناقض احتراسه من الناس ولا ينافيه، كما أن إخبار الله سبحانه له بأنه يظهر دينه على الدين كله ويعليه لا يناقض أمره بالقتال وإعداد العدة والقوة ورباط الخيل، والأخذ بالجد والحذر والاحتراز من عدوه، ومحاربته بأنواع الحرب والتورية.
ونظراً لصدق التلقى وصفاء اللقاء وإخلاص القصد تمكن الفهم العميق لهذا الجانب من نفوس الصحابة، فترجموه إلى واقع عملى نموذجى، فهذا أنس بن مالك، وهو غلام يقول: «فبعثنى -أى رسول الله- فى حاجة، فأبطأت على أمى، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ فقلت: بعثنى رسول الله لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر».
وهذا العباس يقول لابنه عبدالله: «إنى أرى هذا الرجل -يعنى عمر بن الخطاب- يقدمك على الأشياخ -يعنى كبار الصحابة- فاحفظ عنى خمساً: لا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يجربن عليك كذباً، ولا تعصين له أمراً، ولا يطلعن منك على خيانة»، والكلام طويل والعمر قصير والمقام لا يتسع، والمقصود الإشارة التى تكفى اللبيب.
الأمر الثانى: إن أخذ الحذر إضافة إلى كونه سُنة شرعية يأثم المسلم بالتفريط فيها، هو كذلك سنة كونية أمرنا باعتبارها، بل تسخيرها لخدمة الحق الذى نؤمن به، فـ«الحكمة ضالة المؤمن، فحيثما وجدها فهو أحق بها»، وقد تحطمت جهود كثير من العاملين -وما زالت- نتيجة التفريط الكبير فى هذه السنة، فإن غياب هذا الجانب -وعياً وممارسة- أدى إلى إجهاض الأعمال واكتشاف الأسرار وضياع الفرص وذهاب الرجال ونشر الفتنة، «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الْأَبْصَارِ»، أفلم يأنِ لنا أن نستحضر هذا الجانب ونعتبره عند التخطيط والتنفيذ لكل عمل؟ ليس جبناً ولا خوفاً من اللقاء، لا والله، ولكن الهدف كبير «إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً»، ودون هذا الهدف سنن سير الله بمقتضاها هذه الحياة، فلا تعاندوها فإنها غلابة، «فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً».
ترسيخ عقيدة الاستعلاء الإيمانى الذى يمنح المسلم الإرادة ويحميه من الوهن والضعف أمام مكر مخابرات الأعداء
أسس ومنطلقات الحذر
الأساس الأول: تحقيق معانى الربانية:
- ونقصد بالربانية انضباط سلوك المسلم -الظاهر والباطن- وفق مقتضى شرع ربه جل وعلا، قال تعالى: «وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ»؛ لأن ربانية المسلم تعنى طاعته لله جل وعلا، وهذه الطاعة هى سرّ النصر والأمن، قال سبحانه: «وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً* وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً»، ومن هذا الخير حفظهم من كيد أعدائهم «ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِين»، كما أن ربانية المسلم توجب ولاية الله جل وعلا له، ومن تولاه الله جل وعلا حفظه من شر أعدائه، فإنه سبحانه القائل: «فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».
وأهم ما يجب الاهتمام به فى هذا الباب ترسيخ معانى العقيدة الإسلامية فى نفوس المؤمنين كعقيدة الاستعلاء الإيمانى الذى يمنح المسلم الإرادة ويحميه من الوهن والضعف أمام مكر مخابرات الأعداء.
- الاهتمام بالتجسيد العملى للأخلاق الإسلامية، كخلق كتم الأسرار، فعن أنس بن مالك قال: «أسر إلىّ النبى صلى الله عليه وسلم سراً، فما أخبرت به أحداً بعده، ولقد سألتنى عنه أم سليم فما أخبرتها به»، و«إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهى أمانة»، وخلق «ترك المرء ما لا يعنيه»، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وخلق ترك كثرة الكلام، قال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع»، فإنك لو تأملت المصائب الأمنية التى يبتلى بها العمل الدعوى اليوم لوجدت أن إفشاء الأسرار، تصريحاً وتلويحاً، وقصداً وتهاوناً، واجتهاد المرء فى تتبع ما لا يعنيه من المعلومات واحتراف الثرثرة.. تلك القائمة من الأخلاق المذمومة هى أهم الأسباب التى ما زالت تنخر فى جسم العمل الإسلامى، وما بمثل هذه الأخلاق يتنزل النصر، «وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ».
الأساس الثانى: اليقظة والحذر: لأن اليقظة والحذر سبب فى تحقيق الأمن شرعاً وقدراً، قال الله جل وعلا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ»، «وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ».
أهم ما يحقق هذا الأساس:
- الانتباه الدائم: ونعنى بالانتباه ترك الغفلة واستصحاب اليقظة، وألا يكون المسلم «سبهللا» لا يدرى ما يدور حوله أو ما يحاك ضده، قال عمر بن الخطاب: «لست بالخب ولا الخب يخدعنى»، فلسنا مخادعين ولا ماكرين، ولكن المؤمن كيِّس فطن، «ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين».
- الكلمة المسئولة: قال سبحانه وتعالى: «مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت»، وما على الأرض شىء أحوج إلى طول السجن من اللسان، ومن هذه المسئولية ترك التداول العفوى والمجانى للمعلومات، فما كل ما يعلم يقال، وما كل ما يقال قد حضر أهله، ولا كل ما حضر أهله قد حان وقته، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهل يكب الناس فى النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم».
- لطافة الحركة: ونقصد بها الحركة التى لا تُحدث ضجة ولا تثير غباراً ولا تترك أثراً، قال جل وعلا: «وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً»، ومن لطافة الحركة كسر روتينيتها، واعتماد السرية واستعمال التورية فيها، قال جل وعلا: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ».
- تناسب المظهر، قال ابن تيمية رحمه الله: وسبب ذلك -أى عدم المخالفة فى الهدى الظاهر- أن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه، كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون فى أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك.. وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة لهم تختلف باختلاف الزمان والمكان ظهرت حقيقة الأحاديث فى هذا، وليس المقصود التأصيل، ولكن تأمل واسأل العاملين، ولا ينبئك مثل خبير.
الأساس الثالث: الإدراك الجيد لوسائل خصوم الدعوة: إن الصراع بين الحق والباطل قائم لا ينكره إلا جاهل أو مجادل، والأصل أن كل واحد يعمل لما ينتمى إليه، «قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ»، ومن العمل الذى يحقق تأمين العمل الإسلامى الإدراك الجيد لوسائل خصوم الدعوة فى الجانب الأمنى؛ لأنه يمكننا من معرفة مكامن ضعفهم وإبطال مفعول مكرهم، «وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ»، قال تعالى: «وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ».
ويتحقق هذا الإدراك بأمور كثيرة أهمها:
- الوعى بالسنن الكونية: والمعرفة الجيدة، والتقدم التكنولوجى، خاصة ما يتعلق بالجانب الأمنى كمعرفة أجهزة الاتصال وأدوات الرصد والتنصت.. إلخ، فإنما هى سنن مسخرة.
- الثقافة الأمنية: وهى الإدراك العام للعمل الأمنى عند خصوم الدعوة، كمعرفة مؤسساتهم ومناهجهم فى التجنيد وطرقهم فى الاختراق وأدوارهم فى زرع الفتنة وأساليبهم فى التجسس، «وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ».
- الاطلاع على واقع الخصوم: والتأسى بالنبى صلى الله عليه وسلم فى بذل الجهد لمعرفة الأحداث عن قرب، وقصة الرسول صلى الله عليه وسلم وأبى بكر مع الأعرابى يوم بدر معروفة، وما طلبه من حذيفة بن اليمان يوم الأحزاب غير خافٍ على من يهتم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأساس الرابع: الانضباط التنظيمى: ومعنى الانضباط كمال الطاعة لقيادة «الجماعة»، وذلك باستئذانها فيما ينبغى أن يفعل، وكيف ومتى، وبالتنفيذ الدقيق لأوامرها، قال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنكُمْ»، فالمسلم الذى انطبعت فى نفسه هذه المعانى، وتجسدت بصدق فى سلوكه واقعاً عملياً يجنب نفسه وإخوانه ويلات السلوكيات الفردية، والتقدير الشخصى للمواقف؛ لأن الانضباط تحقيق لمراد الله جل وعلا، وقد قال سبحانه: «وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتا»، كما أنه استجابة لرأى من هم أكثر علماً بالمعطيات، وأقدر على معرفة المآلات، وقد قال تعالى: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ».
وأهم ما يحقق هذا الأساس هو:
- إدراك علاقة الأمن بالانضباط: ونقصد به تعميق الوعى بالعلاقة الوطيدة -شرعاً وقدراً- بين الانضباط التنظيمى وتأمين العمل الإسلامى، وفى أحداث معركة أحد خير دليل على ذلك.
- ترسيخ خلق الاستئذان: ونقصد به الاعتياد على أخذ رأى المسئول قبل الإقدام على العمل، واجتناب التقدير الشخصى للمواقف، قال سبحانه: «وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ».
- الاعتراف بالخطأ: وذلك بالإسراع إلى الإخبار عن الأخطاء؛ ليتجنب الدعاة آثارها السلبية، «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ».
- حسن التعامل مع المعلومات: ما يذاع منها وما لا يذاع، وكيف، ومتى، وذلك لا يتحقق إلا بالالتزام بضوابط «الجماعة»، «وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ».
إن هذا النوع من السلوك يتطلب مستوى معيناً من الوعى الشرعى والتربية الإيمانية والثقافة الكونية، ولكنى أعلم كذلك أن السذاجة والغفلة والبساطة والاسترخاء لا يمكن أن تبنى مجداً إسلامياً، ولا أن ترجع العز المسلوب، فلا خيار إلا باستحضار «أسس التدارك» واتباع «سبل الارتقاء»، فإنه حقيقة «وَقُلْ اعْمَلْوا»، وطريق إعداد «مِنَ الْمُؤمِنِينَ رِجَالٌ»، واعلم أنه من يصدق الله يصدقه.
- إن الإدراك الجيد لهذه الأسس جميعها