أخر الأخبار
الأردنيون وأكذوبة البطالة
الأردنيون وأكذوبة البطالة

تتزايد شكوى الاردنيين من البطالة، وهي شكوى تعكس الكثير من تناقضات المجتمع الاردني، ومن عيوب الاردنيين الذين يرفضون الاعتراف بها، كما يرفضون الاعتراف بمسؤوليتهم عن الكثير من صور معاناتهم.. ومنها معاناتهم من البطالة، في الوقت الذي يعمل فيه أكثر من مليون وافد في مختلف مجالات العمل في سوق العمل الاردني، فكيف يجد الوافد السوري فرصة عمل في السوق الاردني، وقبله العراقي، وقبله المصري، وقبل هؤلاء جميعاً الفلبيني والسيرلانكي، والبنغالي، ثم يزعم الاردني انه لا يجد فرصة عمل في بلده؟ ألا يدل ذلك على أن المشكلة ليست في عدم توفر فرص العمل، بل في نوعية ما يريد أن يمارسه الاردني من أعمال؟ وهذه قضية لها علاقة بمنظومة المفاهيم والقيم التي تسيطر على الاردني وتتحكم بسلوكه، وهي منظومة تدل افرازاتها على أن جزءاً كبيراً منها مشوه ودخيل على مجتمعنا الاردني. فأحد اسباب البطالة التي يعاني منها الشباب الاردني تتمثل في مجتمعنا الاردني بارتباط المكانة الاجتماعية للشخص بطبيعة الوظيفة التي يحتلها. وهذه من صور التشوه التي دخلت على المجتمع الاردني. فالاردنيون الذين يرفضون الآن العمل بالزراعة وغيرها من الاعمال اليدوية، ينسون أنهم أبناء فلاحين ورعاة وفعّالة. ففي تاريخنا القريب لم يكن الاردنيون يعزفون عن العمل بأرضهم أو بالتجارة أو بالعمارة، بل وفي سائر الاعمال اليدوية بما في ذلك الخدمة في البيوت، لتأمين مصدر رزقهم بكرامة، قبل ان يصاب ابناؤهم بأنفة كاذبة تمنعهم من مزاولة الكثير من المهن الشريفة والاعمال اليدوية. لكنها لا تمنعهم من أن يكونوا عالة على غيرهم، بل ان هذه الأنفة الكاذبة لم تعد تمنع بعض أصحابها من التسول وممارسة الاحتيال والنصب لتأمين احتياجاتهم ومصاريفهم الكمالية، كالتدخين، واقتناء أحدث اجهزة الهواتف النقالة، وتسديد فواتير مكالماتها.
كثيرة هي الأدلة التي تبرهن على أن الجزء الأكبر من أزمة البطالة في بلدنا مفتعلة، ليس أوضحها هذه الاعداد الغفيرة من العمالة الوافدة، التي صار بعضها يحتكر قطاعات هامة واستراتيجية في الاقتصاد الاردني، كالزراعة والبناء بعد أن تحول اعداد من الوافدين من مجرد عمال يومية الى متعهدين ومقاولين من الباطن أو على المكشوف، بينما يمضي الشباب الاردني وقته في المقاهي والشكوى من عدم توفر فرص العمل.. في حين يشكو أرباب العمل من عدم تجاوب الاردنيين مع اعلاناتهم عن فرص العمل المتوفرة لديهم لأسبابٍ واهية جداً.
فالاردني يتذرع في كثير من الاحيان ببعد مكان العمل عن مكان سكنه، رغم ان كليهما في نفس المدينة، والاردني يشكو من طول ساعات العمل، مع أن القانون حددها بثمان ساعات، وهي لدى الكثير من المؤسسات أقل من ذلك، والاردني صار يشكو الان من عدم توافر الراحة النفسية في مكان العمل، اي ان الأردني صار فنانا في إيجاد الذرائع لكي لا يعمل إلا في الوظيفة الحكومية أو العمل المكتبي، مما يعني أن ازمته ستطول، لأن الجهاز الحكومي مثقل ومترهل ومترع بمن فيه، وقد اعلنت الحكومة اكثر من مرة عن اغلاق ابواب الوظائف. كذلك فإن الكادر المكتبي في القطاع الخاص يكاد يكون مترعاً، وهذا يعني ان على الاردني ان يعترف بواقع سوق العمل وباحتياجاته الحقيقية، وان يسعى الى التزود بالمهارات التي يحتاجها هذا السوق.. فقد صار من المسلمات المتداولة في سوق العمل أن الاردني فقد الكثير من المهارات التي يحتاج إليها السوق المحلية والسوق الخارجية، وهذه واحدة من نتائج تراجع مستوى التعليم في بلدنا وسوء مخرجاته، وهو السوء الذي صار محل شبه اجماع لدى الجميع.
غير فقدان الاردني للمهارات التي يحتاجها سوق العمل فقدَ الاردني ايضا الانتماء لعمله ولمكان هذا العمل، وتدل الدراسات على ارتفاع نسبة نزوح الاردنيين من عملهم، وكثرة تبديلهم لأماكن عملهم، وكثيره هي المؤسسات والشركات والمصانع التي تفاجأ بصورة شبه دائمة عن انقطاع العاملين لديها من الاردنيين بدون سابق انذار، والملفت للنظر في هذه النقطة ان جل الذين يراجعون المؤسسات التي تنشر اعلانات توظيف يكونون على رأس عملهم، مما يؤكد غياب الانتماء لمكان العمل ولطبيعة العمل، حيث صار من المألوف ان يرفق الشاب الذي لم يمض على تخرجه سنتان او ثلاث سنوات؛ ستَّ او سَبعَ شهادات خبرة أو أكثر من ذلك مع طلب التوظيف الذي يقدمه. فمنذ متى كانت الخبرة مجرد عدة أشهر يقضيها الشاب او الفتاه في هذا العمل أو ذاك؟
غير فقدان الاردني للانتماء لمكان العمل فقد فقد ايضا الصبر، فالشاب الاردني يريد من العمل أن يوفر له من السنة الاولى الزواج وامتلاك السكن والسيارة و... و...... الخ، دون ان ينظر الى تجربة من سبقوه من الآباء والأجداد كيف حققوا امانيهم بالجهد والصبر والمواظبة.
كثيرة هي الادلة التي تؤكد على ان الجزء الاكبر من ازمة البطالة في بلدنا مفتعلة، وقد يكون في هذا الكلام قسوة وصدمة، لكن التشخيص الحقيقي للمرض جزء اساسي من علاجه، فعلينا ان نعترف بأن جزءاً كبيراً من معاناتنا مع البطاله ليس بسبب نقص فرص العمل، انما بسبب تشوه منظومة القيم والمفاهيم لدينا، وبسبب الخلل في ثقافتنا وبسبب النقص في وعينا الاجتماعي الذي سبب لنا أنفةً كاذبه.