بالطبع، لا يسرنا أي ضباب في سماء العلاقات العربية. لكن الأمور، عندما تتداعى بين أقطار الخليج الشقيقة، التي تربط بين شعوبها أواصر عائلية، وهي من ذات البيئة الاجتماعية بكل تفصيلاتها؛ يكون التردي العربي الذي نعيشه في هذه الأوقات، قد بلغ نقطة حرجة، يصح معها النظر في الأسباب. وإن كنا في فلسطين، ننشد العلاقة الطيبة والإيجابية مع الجميع، فإننا نتحاشى الخوض في كل الحيثيات. لكن منهج عمل الحكم في قطر، وهي بلد شقيق وعزيز، ولشعبها تقدير عال عند الشعب الفلسطيني؛ يستوجب وقفة موضوعية، نأمل أن يقفها الحكم في قطر مع نفسه، وأن يراجع منحاه الإشكالي، الذي لم يترك بلداً ولا حكماً إلا وجعله في مرمى لغته السياسية الرسمية أو في مرمى إعلامه. فقد كنا طرفاً مستهدفاً من تلك اللغة ومن هذا الإعلام، بتأجيج الفتنة الداخلية. وقد عجزنا عن فهم الدوافع التي لا يمكن أن تكون "جهادية" أو مجذفة ضد تيار الرياح الأميركية. بل إن المواقف القطريّة، استندت في سياقاتها الى حماية واشنطن، التي كانت أثناء ثورة الشعب الليبي على الديكتاتورية؛ ترغب في تسليم الحكم لجماعات أصولية حسب ما رواه أقطاب ليبيون شاركوا في المباحثات مع الغرب أثناء الثورة. وماذا كانت النتيجة؟! انفتح بطن ليبيا لكل الأشرار، وكانت قطر هي الوكيل الحصري للتمكين لهم.
السعوديون معروفون بهدوئهم وصبرهم وبعدم قابليتهم للاستفزاز. وأبناء المرحوم الشيخ زايد، تعلموا من أبيهم كيف يتحملون ويصبرون ويستوعبون بحكمة، كل معضلة في العلاقات العربية والخليجية. ويعرف حكام قطر هذا كله جيداً، وبالتالي سيقرأون رسالة سحب السفراء التي تجرعتها السعودية والإمارات والبحرين علناً. قبل يوم واحد، من سحب السفراء أفسحت "الجزيرة" مساحة زمنية لواحد من الناس، يريد أن "يفتح" روما، ويدافع عن "داعش" الملطخة أيديها بدماء أحرار السوريين. وعلى الرغم من أن السياق كله، كلام في كلام، إلا أن غايته خلط الأوراق، والترويج للأوهام المريضة، بينما الواقع أن التي تُفتح، هي بطون هذه الأوطان ومصائرها على كل المآسي. إن الداعي، عبر التلفزة القطرية لـ "فتح" روما، وهو أعجز من أن يفتح ثغرة في جدار جيرانه، ناهيك عن وطنه؛ لم يبلغنا ماذا سيفعل بالطليان عندما يتحقق "فتحه" المبين؟. المسألة هنا، من حيث كونها مثالاً رمزياً، لا تتعلق بمسجالة مفيدة بين آراء تخدم الوعي. إنها منهج الضرب في كل اتجاه، لصالح كل أنواع الشياطين، ولكي يتأذى أهل الرحمن أينما كانوا!
نقطتان يمكن أن يتسع لهما هذا المقام: الأولى أن المملكة العربية السعودية، كانت صاحبة الفضل على حاكمي قطر عندما مكنت لخليفة بن حمد آل ثاني أن يتسلم الحكم إذ رابطت قواتها على الحدود، منعاً لأي تدخل إيراني لصالح الحاكم المطاح به الشيخ أحمد بن علي آل ثاني الذي كان متواجداً في طهران ومقرباً منها. ولم ينفذ خليفه انقلابه في شباط (فبراير) 1972 إلا بعد التأكد من التأييد السعودي.
والنقطة الثانية أن حكام قطر، الذين يخوضون في سوريا معركة كسر عظم مع إيران، لا يخفف حدتها الدعم القطري للحوثيين في اليمن؛ ليس لهم من يساندهم إقليمياً، بعد أن خسروا السعودية والإمارات والبحرين، ويتبرم منهم الكويتون. فعلى ماذا يعتمد هؤلاء، والى أين هم ذاهبون وهم يشرخون وحدة مصالح دول الخليج العربية، ويتدخلون في شؤونها، مثلما يتدخلون في شؤون غيرها؟
إنهم يعتمدون على الأميركيين الماكثين في قاعدتهم الكبرى، والذين لهم وحدات قمع للشغب، فضلاً عن قواتهم الجوية والبحرية. ولماذا يساندهم الأميركيون ويُنشئون الفارق في منطقة الخليج، بين حليف استراتيجي متطابق معهم في أهدافهم المعلنة والمسكوت عنها، وحلفاء عاديون يصادقونهم على مستوى الوجهة العامة وعلى أساس مصالح متبادلة، ويختلفون معهم في الكثير من التفاصيل؟
الأميركيون أوكلوا لحكام قطر مجموعة مهام غير معلنة، يُستخدم "الإخوان" في سياقها أداة تنفيذ تتلطى بالدين. من بين هذه المهام استئناس التيار الإسلاموي، وإدخاله الى بيت الطاعة عن طريق "الجماعة" وربط أجندته بأجندتهم، وهم ـ من جانبهم ـ لهم اتصالاتهم وعلاقاتهم القديمة بـ "الإخوان". ومن بين المهام أيضاً، تسليط الضوء، من خلال شاشة التلفزة، على كل النقاط المعتمة في ثنايا الحراك الاجتماعي في العالم العربي، إذ لم يعد هناك مجموعة أو فصيل أو حكاية إلا ويعرضها أصحابها على "الجزيرة" ليتولى المحللون المختصون قراءتها بدقة والتعرف على كل ما يجهلونه. كذلك من بين المهام، أن يُصار الى تسفيه وفضح القوى الوطنية والقومية العنيدة في تمسكها بالاستقلال الحقيقي ـ بلا تبعية ـ لبلدانها.
إن لم يكن الحاكمون في قطر، يعتمدون على الأميركيين؛ فعلى من يعتمدون إذن، وهم يُغضبون الشقيق العربي البعيد، والشقيق القريب في الجوار؟ إن لم يكن ما نقوله صحيحاً، عن المهام الموصولة باستراتيجية الهمينة الأميركية على العرب في زمنهم الجديد؛ هل نعتبر حكام قطر أصوليين و"مجاهدين" ومتحمسين لتطبيق الشريعة ومتقبلون لأسلوب حزّ الرؤوس على طريقة "داعش"؟!
نأمل أن يجتمع حكام قطر مع حكماء شعبهم، وأن يصلوا الى قناعة بأن الأمور لن تمشي على هواهم ولا على هوى الأميركيين. فهل يفعلون؟!