لم يتبق للروائي الألماني من يهوديته الا ما نجده من رموز عراقة ما على ابواب المنازل، والا اثرا بعيدا من مخايل الاعتزاز بالتمييز او بالعبقرية على نحو ما نرى في روايته العظيمة «لعبة الكريات الزجاجية».
لقد كان مثال اليهودي (غير الصهيوني) المنخرط في العالم، المستكمل ابعاده الانسانية فيه، وذلك بعكس فرانز كافكا الذي كانت رموزه صهيونية خالصة وان تجلببت برداء من الغموض، الامر الذي نجده في قصته «المحاكمة» وفي قصص قصيرة أُخرى قلما التفت قارئوها الى صهيونية رموزها.
اما يورين هابرماز وهو احد اعمدة مدرسة فرانكفورت في نقد الانظمة المعرفية والاجتماعية والتي كان معظم اعضائها من اليهود، فقد نبهنا – على الرغم من يهوديته – الى سيطرة «القبالا» بما هي نزعة عرفانية على كثير من الاوساط الاكاديمية الغربية ولربما كان ذلك منه لوناً من الزهو العرقي الذي يتخذ طابع الموضوعية.
اما «جاك دريدا» فاكتفى من خلفيته العرقية بما ارثته فيه من رغبة في تفكيك الخطابات وتحطيم انظمة القيم، حتى اذا غلبته احاسيسه بالاغتراب اقدم على الانتحار فيما لا يزال يحار في تفسيره المفسرون، اذ كان في طوقه ان يسلك مسلك يهودي اخر، وهو برنارد لويس، الذي آلت صهيونيته الى برامج وسيناريوهات لتحطيم العالم العربي الاسلامي. وذلك بخلاف يهودي آخر – وهو «كارل بوبر» الذي كانت له تجربة في احدى المستعمرات الإسرائيلية في «فلسطين العربية المغتصبة» قبل ان يكتب مؤلفه الشهير «عقم المذهب التاريخي»، او بخلاف يهودي ثالث له بعض هيمنة على افكار بعض الاكاديميين والكتاب العرب، وهو «نعوم تشومسكي» الذي سوّغ في فلتة فيه ضرب «هوروشيما» و»ناجازاكي» اليابانيتين بالقنبلة الذرية الأميركية، وتعاطف «وجودياً» مع الضابط الاميركي الذي ألقاها، والذي اثبت بموقفه هذا انحيازه الى الليبرالية الشرسة او الرأسمالية الدموية على الرغم من تتابع نقدها لكثير من تجلياتها.
ولربما كان لموقف هذه الليبرالية المتوحشة المؤيد للكيان الصهيوني في قلب المشرق العربي الاسلامي الدور الاكبر في تناقضات تشومسكي، ولكن كثيراً من الذاهلين العرب لا يعلمون.
ومهما يكن الامر، فإن تغلغل الصهيونية في الاكاديميات الغربية وفي رئاسات الدول الاوروبية وفي وسائل الاعلام، وفي المؤسسات الثقافية التي تمنح الجوائز بالحق وبالباطل مثل جائزة «نوبل» وجائزة «البوكر» وغيرهما. كل ذلك كفيل بلفت انتباهنا (المستغرق في اوهامه) الى ما نحن مضبوعون فيه من ألاعيب في واقعنا المشهود، والى ما نحن مدفوعون إليه فيما هو آت.