ليس مستبعداً أن تكون غزة على موعد مع التصعيد الإسرائيلي الذي "بيت" النية للقطاع ووضع المقاومة تحت مرمى أهدافه، لحرف المسار السياسي الذي شهد حالة من الارتباك والاستعصاء مع جملة اللاءات التي رفعها نتنياهو في وجه وزير الخارجية الأميركية جون كيري وفي وجه الفلسطينيين أيضاً.
في إسرائيل يتعاملون مع غزة كما لو أنها ميدان وساحة لاختبار كل شيء، سواء في الفعل العسكري الإسرائيلي والتمرين على استخدام وتجريب التكنولوجيا الجديدة، أو في الهروب من الوضع الداخلي الإسرائيلي باتجاه افتعال أزمة في القطاع لتغيير مزاج الرأي العام الإسرائيلي.
الذي يحدث الآن تحديداً يتصل بمحاولات إسرائيلية لنسف وإنهاء المسار السياسي الذي وضعه كيري للوصول إلى اتفاق جزئي أو اتفاق إطار بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ذلك أن نتنياهو أكد تمسكه بمواصلة الاستيطان في الضفة الغربية ولن يحيد عن هذا الإطار.
أكثر من ذلك، أن نتنياهو طالب الفلسطينيين أن يعترفوا بإسرائيل دولة يهودية وأن يتخلوا عن حق عودة اللاجئين إلى ديارهم، وربط هذه المطالب بتحقيق السلام، الأمر الذي ترفضه القيادة الفلسطينية جملةً وتفصيلاً.
إنها لحظة قلب الطاولة، اللحظة التي انتظرها نتنياهو ووزير خارجيته أفيغدور ليبرمان للهروب من نصائح وتحذيرات الرئيس الأميركي باراك أوباما بشأن دعوة نتنياهو لاتخاذ قرارات صعبة تتعلق بإحداث تقدم في عملية السلام، على أن تتلمس طريقها أواخر الشهر المقبل.
أوباما الذي استقبل نتنياهو قبل أيام، كان وما يزال يأمل أن يتوصل الفلسطينيون والإسرائيليون إلى اتفاق مبدئي يتناول القضايا الجوهرية ويخرج إلى النور قبل انتهاء مهلة المفاوضات التي انطلقت بين الطرفين في تموز العام الماضي.
مهلة المفاوضات ستنتهي في التاسع والعشرين من الشهر المقبل، وأوباما كان حريصاً على تحذير نتنياهو بأن الفرص تضيق أمامه في حال لم يتم التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين، على اعتبار أن ذلك سيخلق تداعيات متنوعة.
واحدة من التداعيات التي يراها الفلسطينيون صحيحة وينتظرون الوقت المناسب لإعادة إحياء مسارها، تتصل بتوجههم نحو الفضاء الدولي لمواصلة النضال الدبلوماسي في المحافل الدولية ومحاولات انتزاع اعتراف دولي بقبول دولة فلسطينية مستقلة رغماً عن أنف إسرائيل.
لا يعني هذا أن أوباما سعى لحشر الإسرائيليين وأبقى الفلسطينيين في مساحة مفتوحة للمناورة السياسية، إنما أيضاً حاول ابتزازهم لتقديم تنازلات تناسب الطرف الإسرائيلي، لكن بصراحة الشيطان نفسه لا يقبل بالمطالب الإسرائيلية التي تثبت أنها تعجيزية وتستهدف نسف عملية التسوية.
بذلك يجد نتنياهو ضالته في قطاع غزة، فهي تشكل له الحل المريح وأقصر الطرق لقلب طاولة المفاوضات وإرباك النشاط الأميركي المحموم لتأمين شبه اتفاق أو حتى جمع الطرفين المفاوضين على موافقة مبدئية لاستكمال العملية التفاوضية.
نتنياهو استفز المقاومة الفلسطينية باستهداف ثلاثة عناصر من "سرايا القدس" التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، وردت الأخيرة ومعها عدد من الفصائل الأخرى بإطلاق صواريخ كثيرة على مناطق في البلدات الجنوبية الإسرائيلية، الأمر الذي سيستثمره نتنياهو بالتأكيد من أجل الرد على المقاومة الفلسطينية وتطويق غزة.
بكل سهولة يمكن لنتنياهو فعل ما يشاء في غزة، لأنه سيقدم للرأي العام الإسرائيلي فرضية أن الجبهة الداخلية تتعرض لاعتداء فلسطيني يحتاج إلى رد قاس ومؤلم، إلى جانب أنه لا يريد الاستعجال في معاقبة قطاع غزة، بل على الأرجح أنه سيماطل ويلعب على الوقت لإطالة حربه وإبعاد شبح المسار السياسي عنه.
قبل التصعيد الإسرائيلي في القطاع، تناقلت وسائل الإعلام خبراً يتعلق بمصادرة إسرائيل سفينة تحمل أسلحة إيرانية متطورة قيل إنها كانت متجهة نحو غزة، وعلى الفور نفى مسؤول عسكري إيراني إرسال بلاده أي أسلحة إلى القطاع.
يبدو أن خبر السفينة مفبرك وعلى الأرجح أن سيناريوهات إخراجه إسرائيلية بامتياز، ذلك أن الأخيرة هي من يحاصر قطاع غزة، ويدرك الجميع أن دبوساً لا يمكن وصوله إلى القطاع عبر المجالين الجوي والبحري اللذين تراقبهما إسرائيل باستمرار، فضلاً عن الجانب البري بطبيعة الحال.
الهدف من هذه القصة المختلقة التي لم تستطع إسرائيل تسويقها إلى العالم هو الآتي: أولاً محاولات شيطنة إيران والعمل الجاد من أجل إفشال المفاوضات الغربية معها والتوجه نحو توجيه ضربة عسكرية إليها، وثانياً شيطنة قطاع غزة والاستمرار في محاصرته، تزامناً مع تحذير أوروبي مستند إلى تقرير عن واقع غزة، يعتبر أن عدم التعامل مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في القطاع من شأنه أن يؤدي إلى وقوع عواقب وخيمة.
التقرير حمل إسرائيل المسؤولية الرئيسية عن الأوضاع الصعبة التي يعيشها أهل القطاع نتيجةً للحصار المفروض عليهم منذ العام 2006، خصوصاً وأنه أفقرهم وصعب حياتهم كثيراً وزاد من معدلات البطالة وعرقل عمليات التنمية وإعادة إعمار القطاع.
إن إسرائيل مرتاحة لبقاء غزة في وضع كارثي، وهي مستفيدة من ورقة القطاع في التحلل من مختلف القضايا التي تخصها، الأمر الذي يعني أنها ستحاول الاستفادة مما يجري حالياً لزيادة الحصار على غزة والهروب من تعقيدات المسار السياسي.
حالياً يجري الإعداد لسلسلة من الخيارات تتصل بآليات الفعل المتوحش الإسرائيلي على غزة، والأمر محسوب بالتمهيد الأولي لشن غارات مكثفة ومختلفة، قد يتبعها توغل في بعض المناطق المتاخمة للحدود مع إسرائيل، وقد يتوسع التصعيد ليشمل التوغل في عمق القطاع.
ليبرمان يميل نحو توجيه عملية برية واسعة تستهدف احتلال غزة كاملاً، أما نتنياهو فيكتفي بأنه سيرد بقوة وقساوة على المقاومة الفلسطينية، وعلى الأرجح أن تكون الصيغة المقترحة لغزة تعكس الحل الوسط بين نتنياهو وليبرمان.
وقد لا يكون وارداً أمر احتلال القطاع وهو سيناريو غبي جداً، لأنه يحمل مخاطر كثيرة على الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، إلى جانب أن إسرائيل مهتمة كثيراً في موضوع التكاليف المتعلقة بها تحديداً، ما يجعلها تستصعب قبول فكرة ليبرمان.
لكن مع ذلك، ينبغي على المقاومة الفلسطينية أن تتحسب لأي فعل إسرائيلي عدواني مهما بلغت مستوياته، وأن تتحصن خلف إرادة جماعية غير مرتبطة بالثأر على خلفية استشهاد المقاومين الثلاثة من "سرايا القدس"، وأن تفوت الفرصة على إسرائيل لتمرير مخططاتها الشيطانية، عبر إلحاق الأذى بالأخيرة بناءً على حرب الاستنزاف والتصعيد التدريجي وعدم الدفع بكل وسائل القوة الفلسطينية مرةً واحدة.
ويبقى القول إن أهم مناعة للصمود الفلسطيني تتحدد بالعودة عن الانقسام الداخلي الذي يهد العمود الفقري لكل القضية الفلسطينية، وربما هذه هي اللحظة المناسبة التي ينبغي خلالها استثمار أجواء الحرب الإسرائيلية نحو إعادة اللحمة الوطنية والنسيج الاجتماعي الذي تآكل بفعل الانقسام الداخلي والاحتلال الإسرائيلي، وكلاهما وجهان لعملة واحدة.