إن مما لا خلاف فيه هو أن الأشهر الخمسة المنصرمة مرت صعبة على أمريكا، وأكاد أزعم أنها كانت طوال هذه الفترة تترنح تحت ضربات خصمها الروسي القوية في حربهما الباردة التي تزداد سخونة -ووضوحاً- يوماً بعد يوم.
ولا بد أن ندرك أنه ما بين طرف روسي يعتقد في قوته وإمبراطوريته المتعافية من كبوتها واقتصاده القوي، وبين طرف أمريكي يؤمن بسطوته وإمبراطوريته القوية واقتصاده المتعافي من كبوته، تم تهيئة الحلبة العالمية لتشهد النزال بين هذين القطبين اللذيْن لا يريدان الحرب … ولكن لا يقدران على السلام.
أول هذه الضربات لأمريكا كانت من موسكو، من مطار موسكو تحديداً حيث كان سنودن يقبع بانتظار اللجوء السياسي -والذي حصل عليه لاحقاً لمدة عام. فقد كان المشهد المهين لفضح عمليات التجسس الأمريكية على قيادات ألمانيا والبرازيل وتخريب علاقاتها مع هاتين الدولتين، مليء بالظلال الروسية التي حرضت -أو رحبت على أقل تقدير- بهذه التسريبات.
ثم جاء التقارب الروسي المصري ليؤكد لأمريكا وجود آثار أقدام روسية تواكب -ولو من بعيد- المسار الذي سلكه الانقلاب في مصر ووصوله إلى حيث لم تكن تريد أمريكا وبهذا تكون روسيا قد خطت فوق أرض محرمة -أو كان يجب أن تبقى محرمة- لاتصالها بمناطق النفوذ الأمريكي وقربها من إسرائيل وأهميتها الاستراتيجية للتجارة العالمية (قناة السويس).
إلا أن صبر أمريكا قد نفذ فعلاً بعد مؤتمر جنيف (2)، والذي تخلت عن الكثير من خطوطها الحمر وخففت من دعمها للمعارضة في الطريق إليه، لتجد بأنها كانت قد توهمت أن الهدف من المؤتمر هو ترتيب انتقال سلمي للسلطة لهيئة حكم انتقالية، وهو ما ثبت لاحقاً أنه كان سراباً بعد أن تحول المؤتمر إلى مرافعة سورية -بإيعاز روسي- عن مكافحة الإرهاب أعادت تكريس شرعية النظام السوري دون تقديم أي تنازلات.
ولهذا قررت أمريكا ان تكون ضربتها التالية في أوكرانيا التي تحتضن مصالح روسية حيوية واستراتيجية، وحيث توجد أزمة اقتصادية خانقة تجعل من أوكرانيا تربة خصبة جاهزة لاستقبال بذور الرد الأمريكي. لذلك جاء العرض المالي الأوروبي -بتحريض أمريكي- لأوكرانيا مصمماً بطريقة تستدعي رفض حكومتها لتفجر أزمة تستدرج التدخل الروسي، وقد كان.
ولكن، هل كان هذا التحرك الأمريكي مدفوعاً بهدف الضغط على روسيا في سوريا، وبرغبة جامحة للانتقام؟
أغلب الظن أن لا هذه ولا تلك، فروسيا ستزداد إصراراً وعناداً في سوريا وإن انشغلت عنها قليلاً في أوكرانيا، ثم إن الدول العظمى لا تتحرك بدافع من العواطف والغرائز وإنما تحركها المصالح والمطامح الاستراتيجية.
ولذلك سنلاحظ أن أمريكا تتعمد باستمرار توريط روسيا في نزاعات حول العالم لإشغالها ولاستنزاف اقتصادها، والذي سيتأثر بقوة أيضاً كنتيجة لفرض عقوبات اقتصادية بحسب التهديدات الأمريكية على أثر الأزمة الأوكرانية.
لقد نجحت أمريكا في وضع روسيا حيث تريد تماماً، وكل ذلك يصب في خدمة الهدف الاستراتيجي الأمريكي المتمثل بإنهاك روسيا وإشغالها عن حليفتها التي ستتواجه معها أمريكا مواجهة كبرى … الصين.