أخر الأخبار
تركيا: حسابات السلطان الخاسرة
تركيا: حسابات السلطان الخاسرة
تكاد الحرب السورية تنتهي ولا يزال بعض اللاعبين لا يسلم بالمعادلات الجديدة الناشئة عن انتصار النظام السوري وحليفيه روسيا وإيران. ربما تكون الولايات المتحدة أول الذين فهموا الصورة وشعروا بالهزيمة المبكرة حتى لو لم تنسحب القوات الأميركية بصورة كاملة، فعلى الأقل هناك قرار أميركي بذلك. ولعل الحديث الصادم لإسرائيل والذي تكرر في مناسبات عديدة بأن الولايات المتحدة ستنسحب من سورية يجسد هذه الحقيقة. ولا يخفف من قلق أصدقاء أميركا القول إن الحديث هنا عن إعادة انتشار للقوات الأميركية. فالرئيس دونالد ترامب لا يرغب في أن يخوض الجيش الأميركي أي حرب خارج أراضيه لا يشعر أنها ضرورة قصوى للمصالح الأميركية. حتى الدول العربية التي صرفت مليارات الدولارات على هذه الحرب الخاسرة عادت وغيرت موقفها منها وتمتنع الآن عن التدخل بنفس الصورة الماضية حتى أن بعضها بدأ ينفتح تجاه دمشق ومستعد لإعادة العلاقات الطبيعية معها، وأضحت عودة سورية الأسد إلى مكانها الطبيعي في الجامعة والأسرة العربية مسألة وقت.

ولعل الشيء الذي يثقل على بعض الدول هو الشعور بالهزيمة أمام إيران في سورية، ولا تريد التسليم بذلك ومستعدة لدفع الغالي والنفيس من أجل إخراج إيران من سورية والحلول مكانها مع التسليم مبدئياً بانتصار الرئيس بشار الأسد. ولكن هذا لن يحدث قريباً على ما يبدو وعلى الذين ساهموا بالحرب الدموية ومولوا العصابات الإرهابية التي عاثت قتلاً ودماراً في سورية بهدف تمزيقها وتقطيع أوصالها وإنهائها كدولة موحدة متماسكة أكثر من مجرد إسقاط نظام الأسد واستبداله بنظام آخر ان يقتنعوا بأنهم هزموا بهذه المعركة. ولا شك أن الفضل الأكبر لانتصارات النظام السوري يعود بالدرجة الأولى لحلفائه وعلى رأسهم روسيا التي دفعت بكل ثقلها في هذه الحرب الكونية، حرصاً على مصالحها وعلى وجودها في هذه المنطقة الحيوية من العالم، مع عدم التقليل من الدور الإيراني ودور "حزب الله" في تحقيق الانتصارات.
وحدها تركيا بزعامة رجب طيب أردوغان لا تزال تكابر بعد فشلها الذريع بكل ما قدمت من دعم وبكل ما أوتيت للعصابات المختلفة التي دخلت إلى سورية عبر الأراضي التركية وبدعم مباشر من النظام التركي الذي فتح حدوده بشكل كامل لنقل المقاتلين والسلاح والأموال إلى الأراضي السورية. والفشل التركي يتصاعد في جانبين: الأول أن جبهة النصرة والجماعات المدعومة من تركيا تنحسر وتخسر مواقعها تباعاً وآخر معاقلها إدلب التي لم تستطع القوات التركية المتمركزة فيها منع انهيار حلفائها وحمايتهم، بل إن القوات والمواقع التركية هناك تعرضت للقصف بشكل متعمد من القوات السورية ولم تحرك أنقرة ساكناً سوى إطلاق التهديدات ومحاولة التأثير على طهران وموسكو للحفاظ على اتفاق مناطق التهدئة، الذي لم تنفذه تركيا وأخفقت في إخراج المسلحين من مناطق خفض التوتر وهذا كان عملاً مقصوداً للإبقاء على عناصر قواتها وللتأثير على مستقبل المنطقة التي ترى فيها تركيا مصلحة حيوية.
الجانب الثاني في فشل تركيا يتمثل في عدم دحر قوات "سورية الديمقراطية" الكردية التي تتكون أساساً من "وحدات الحماية الكردية" التي تعتبرها الحكومة التركية الوجه السوري لمقاتلي الـ"بي كي كي" الذين يقاتلون ضد تركيا ويريدون الانفصال عنها.  فهؤلاء مدعومون من الولايات المتحدة الأميركية حليفة تركيا في "الناتو". وأميركا هي التي تقدم الدعم بكل أنواعه بما في ذلك السلاح المتطور والمال لقوات "سورية الديمقراطية". وعملياً تتخذ الولايات المتحدة موقفاً فيه معضلة جوهرية فهي لا تريد التخلي عن الأكراد لأنهم حاربوا "داعش" وانتصروا عليها وهم حليف أساسي لأميركا في سورية وهي تريدهم أن يسيطروا على حقول النفط المهمة في شمال شرقي سورية. وفي نفس الوقت تريد الإبقاء على التحالف مع تركيا في وجه روسيا وتمددها في المنطقة.
غير أن التحالف التركي - الأميركي يواجه صعوبات جدية أولاً بسبب معضلة الأكراد ونية تركيا شن حرب عدوانية عليهم لتثبيت الحزام الأمني الواسع على طوال الحدود السورية التركية، الذي تسعى من خلاله تركيا إلى نقل ملايين اللاجئين إلى هذه المنطقة وتغيير الواقع الديمغرافي فيها بحيث لا تصبح منطقة ذات أغلبية كردية تبحث عن إدارة ذاتية ويمكن أن تكون ملاذاً آمناً للانفصاليين الأكراد وربما في مرحلة لاحقة جزءا من الدولة الكردية التي تمتد من تركيا والعراق إلى سورية وتشمل كذلك بعض المناطق الإيرانية. والأهم هو قطع التواصل الكردي بين كردستان العراق وسورية وصولاً إلى البحر المتوسط. وثانياً بسبب العلاقة مع روسيا وخاصة شراء صواريخ "أس 400" منها.
تركيا الآن في أزمة حقيقية ولا تعلم كيف ستتصرف أميركا في حال قيامها بحرب شاملة ضد الأكراد وهي التي زودتهم بقوافل الأسلحة الحديثة في الفترة الأخيرة. والولايات المتحدة ترفض فكرة أن تشن تركيا حرباً ضد حلفائها. وفي كل الأحوال ستخسر تركيا كثيراً في حال الحرب أو البقاء في حالة خسارة متزايدة. كما أن أردوغان نفسه يخسر في تركيا التي تعاني أزمة خانقة وليرتها تتدهور أمام العملات الصعبة واقتصادها يضعف. وهو لا يزال يعتبر نفسه سلطاناً وخليفة للمسلمين ويتدخل في شؤون دول المنطقة من سورية إلى ليبيا مروراً بفلسطين.