أخر الأخبار
بناء الدولة .. مواجهة المشروع الاستيطاني
بناء الدولة .. مواجهة المشروع الاستيطاني

دائماً يبقى السؤال الحيوي قائماً: ماذا نفعل لكي نوقف المشروع الاستيطاني الإسرائيلي الذي لا تنتهي حدوده بالقضاء على فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلتها إسرائيل والتي تعني الضفة الغربية وبضمنها القدس الشرقية وقطاع غزة، بعدما لم ننجح في دفع المجتمع الدولي للضغط على إسرائيل وثنيها عن مواصلة سياسة التهويد والاستيطان في القدس والضفة الغربية، وبعد أن حصلت إسرائيل على ضوء أخضر وتفهم من الولايات المتحدة الأميركية؟ الرد البديهي على هذا السؤال في أذهان الفلسطينيين هو مواصلة وتعزيز مقاومة الاحتلال، وربما يطرح البعض المقاومة المسلحة باعتبارها أقوى الخيارات، ومع ذلك يجمع الفلسطينيون على المقاومة الشعبية واسعة النطاق كأفضل خيار. ولكن لم تنجح جهود كل الفصائل والقوى في دفع الناس للخروج في مقاومة شعبية واسعة النطاق كانتفاضة مثلاً، بل كان الناس ولا يزالون اقرب للانتفاض ضد السلطة في الضفة كما حصل مع المظاهرات ضد قانون الضمان الاجتماعي، وضد «حماس» في اكثر من مناسبة وآخرها حراك «بدنا نعيش». وهذا كان بسبب خيبة أمل المواطنين من كل القوى السياسية وعلى رأسها القوى الحاكمة في شقي الوطن.
هل يعني هذا أنه لا يوجد ما نفعله بانتظار أن يمن الله علينا بانتفاضة ثالثة تأكل الأخضر واليابس وتعيد صياغة الوضع برمته في المنطقة، هذا إذا حصلت أصلا وإذا بقيت انتفاضة شعبية واستمرت؟ في الواقع هناك الكثير الذي نستطيع. والتفكير هنا يجب ان ينصب باتجاهين: الأول هو نحو الساحة الداخلية، أي نحو الشعب لاستعادة ثقته وخلق عوامل لتجديد طاقته وتحفيز نضاله الوطني. والثاني هو نحو المجتمع الدولي لدفعه للتحرك والانتصار للحقوق الفلسطينية العادلة التي طالما أيدها ووقف معها في مناسبات لا تعد ولا تحصى. والفعل هنا يحب أن يذهب باتجاه البناء الفعلي لدولة حقيقية قائمة على المؤسسات وتتمتع بالديمقراطية والحكم الرشيد، لا مكان فيها لديكتاتورية وفساد، ويشعر الناس بانتماء حقيقي لها وأنها تمثلهم ومستعدون للدفاع عنها. قد يقول قائل وهل نملك القدرة على بناء هذه الدولة تحت الاحتلال، ونحن جربنا ولم ننجح؟
هذا سؤال مشروع، وقد يكون منطقياً لو أننا فعلاً قمنا بما توجب علينا ولم نهدم المعبد على رؤوسنا. فالاحتلال لم يمنعنا ان نبني مؤسسة محترمة ولم يمنعنا أن نضع الشخص المناسب في المكان المناسب، ولم يفرض علينا الفساد حتى لو كان يشجع على ذلك ويرغب في وجوده بيننا، والاحتلال ليس مسؤولاً عن صراعنا على السلطة وإقامة سلطات مزدوجة تنتهي بانقلاب وانقسام مدمر، وحتى لو كان الاحتلال مسؤولاً بهذه الدرجة أو تلك لماذا نلبي ما يريد ونساعده على ذلك.
العمل الفوري على إعادة بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية على قاعدة الشفافية والمحاسبة والأهلية والشراكة الوطنية هو المدخل الحقيقي لإحداث التغيير الذي يقود في النهاية إلى هزيمة المشروع الاستيطاني، وحتى لا يصبح الموضوع مجرد شعارات أو أمنيات، لابد من البدء فعلاً بخطوات على هذا الطريق، أولها إنهاء الانقسام والذهاب نحو انتخابات عامة تشريعية ورئاسية تفضي إلى إعادة تجديد المؤسسة وضخ دماء جديدة فيها وتفعيل آليات الرقابة والمحاسبة، قد تسبق الانتخابات المصالحة وقد تكون رافعة مناسبة لذلك، لا بأس بهذا شريطة أن يصار إلى أولاً احترام إرادة الناخب وخياراته والتسليم بالنتائج مهما كانت، ووضع برنامج وطني شامل للذين ينتخبون للسير على هداه وتطبيقه على المستويين الوطني العام والداخلي التنفيذي.
والانتخابات هي بداية جيدة لاستعادة ثقة الجمهور بالمؤسسات وبالفصائل والقوى السياسية، وإذا ما تبعت بتغيير حقيقي في بنية وآليات عمل المؤسسات التنفيذية كافة وعلى قاعدة الفصل بين السلطات وحماية الحريات العامة وعلى رأسها حرية التعبير، وحرية الإعلام على أن يأخذ دوره كسلطة رابعة مسؤولة وذات أجندة وطنية، فهذا من شأنه أن يمنح الجماهير الثقة بالنفس والثقة في القدرة على التغيير، وهذا سيقود حتماً لتعزيز صمودها وطاقاتها في مواجهة الاحتلال بدافعية وطنية أكبر وأقوى، وذلك دون شك يشكل مقدمة لانتفاضات شعبية أوسع وأشمل في التصدي للمشروع الاستيطاني.
كما أن مثل هذا التطور سيقود إلى تعزيز ثقة المجتمع الدولي بمستقبل الدولة الفلسطينية العتيدة باعتبارها ستشكل مساهمة مهمة في تعزيز الأمن والاستقرار في هذه المنطقة والعالم أجمع، ولا يخفى على أحد أنه في ظل الوضع الحالي الذي يسوده الانقسام والفساد وتغول السلطات على بعضها وعلى الناس، لا توجد ثقة لدى المجتمع الدولي ولدى دول مؤثرة منه بما يمكن أن يحصل لدينا فيما لو حصلنا على دولة. وهذا الكلام تستغله إسرائيل بصورة جيدة لتقنع العالم أنها لا تستطيع الانسحاب وتسليم الأمن في المناطق الفلسطينية لجهة غيرها طالما الفلسطينيون منقسمون وطالما «حماس» تحكم غزة، بادعاء عدم وجود ضمانة حتى لا تسيطر «حماس» على غزة، مع أننا جميعاً ندرك أن الوضع الراهن هو مثالي لمصلحة المشروع الاحتلالي.
التغيير الداخلي بالطريقة التي أشرنا إليها ستكون دافعاً كبيراً للعالم للدفاع عن الفلسطينيين وللضغط على إسرائيل لتوقف مشروعها الاستيطاني والذهاب نحو عملية سياسية، مع انتفاء كل المبررات والأكاذيب التي تسوقها، كما أن هذا سيشجع إسرائيليين كثيرين لمواجهة سياسة حكوماتهم في التنكر لحل الصراع وتحقيق السلام الذي يضمن الأمن والاستقرار في المنطقة، فهل نفعل ذلك من أجل أنفسنا وتتوقف مرة واحدة عن قول الشعارات التي لا نقصدها والأكاذيب التي نكررها ليل نهار باسم الوطن، ونعود جميعاً إلى وطنيتنا النقية؟ هذا هو اختبار الجدارة والوطنية.