بعد التجربة السورية ،الموجعة للقلب، فإن الأفضل أن تكون هناك حربٌ باردة وقد يأتي اليوم وقريباً الذي نتمنى فيه أن تكون هناك حربٌ ساخنة فـ»تفاهم» الدول الكبرى لا يمكن إلاَّ أن يكون على حساب الدول الصغيرة وإلاَّ ما معنى أن يستمر سيرغي لافروف وجون كيري بتبادلان الإبتسامات ولثلاثة أعوام طويلة وها نحن ندخل أبواب العام الرابع والأميركيون يقدمون التنازل تلو التنازل وفلاديمير بوتين يزداد «نمْرده» ويزداد تكبُّراً وتجبراً وشلالات الدماء في سوريا لم تتوقف والذبح الهمجي بقي متواصلاً طوال كل هذه الفترة.
وكما سمعنا مراراً وتكراراً فإنَّ الأميركيين بقوا يتذرعون لتبرير عجزهم وتقاعسهم بالقول أن صراع المعسكرات قد إنتهى بسقوط الإتحاد السوفياتي ومنظومته الإشتراكية وسقوط حلف وارسو ولهذا فإنه غير جائز أن نلجأ إلى أي تصعيد يعيد العالم إلى مرحلة ما قبل بدايات تسعينات القرن الماضي.. وكل هذا والروس يرمون بكل ثقلهم السياسي والعسكري لإلحاق الهزيمة بالمعارضة السورية وحلفائها وللإبقاء على نظام لا أكثر منه تخلفاً وبطشاً وديكتاتورية إلاَّ نظام كيم جونغ أون في كوريا الشمالية.
لقد بقي الأميركيون «يستمتعون» برؤية حمامات الدماء في سوريا وبقوا يتابعون التدخل الإيراني والروسي في الشؤون الداخلية السورية وبالسلاح والفيالق العسكرية وتدخل حزب الله وكل هذه الشراذم الطائفية «الخسيسة» المرسلة من العراق بتوجيهات علي خامنئي وقاسم سليماني وحقيقة أنَّ الأسوأ من هذا أنهم بقوا مع الوقت يتراجعون تراجعاً غير منظم وإستمروا في التعايش مع مأساة لم يشهد التاريخ الحديث مثلها والحجة أنهم لا يريدون عودة الحرب الباردة وأنهم من الضروري أن يتجنبوا إندلاع حرب جديدة في هذه المنطقة التي هي ليست بحاجة إلى أكثر من عود ثقاب واحد كي تتفجر وتتحول إلى حروب طاحنة.
والآن وقد حدث في أوكرانيا ما حدث وقد ضم فلاديمير بوتين منطقة شبه جزيرة القرم وهو يمد لسانه إستهزاء بباراك أوباما وبرؤساء وقادة الإتحاد الأوروبي فإن المفترض أن الرئيس الأميركي قد أدرك أن تخاذله في سوريا هو الذي شجع الرئيس الروسي على التمادي وأن تخاذل الأميركيين والأوروبيين بالنسبة لهذه الأزمة الدولية الجديدة سوف يشجع هذا «الستالين» الصغير على الإستمرار بالتمدد غرباً وأنه قد يأتي اليوم الذي يستعيد فيه كل مناطق هيمنة الإتحاد السوفياتي السابق ويستعيد أيضاً حلف وارسو ولكن على نحو أقوى كثيراً مما كان عليه.
ولهذا فإنه على كل الشعوب الصغيرة وعلى كل الدول التي ،بعد غياب شمس الحرب الباردة، بقيت تُسْتَخْدم كفرق حسابات بين الشرق الروسي الصاعد وبين الغرب المصاب بالعجز والشيخوخة أن تفرح بإحتمال عودة الحرب الباردة بعدما أدَّت الخطوة التي أقدم عليها فلاديمير بوتين في «القرم» إلى كل هذا الإصطفاف الأوروبي والأميركي وإلى إحتمال أن تتخلى واشنطن عن ميوعة مواقفها وأن تدرك أنَّ أوكرانيا هي الإمتحان وأنه إذا لم يوضع حدٌّ فعلي لروسيا فإن الرئيس الروسي سيتمادى حتماً وسوف يبادر لوضع العالم كله أمام واقع جديد.
في زمن الحرب الباردة كان العرب «يتدلَّلون» وهم يهددون الإتحاد السوفياتي السابق بتمتين علاقاتهم بالمعسكر الغربي وكانوا يبتزون أميركا وحلفاءها إبتزازاً بالذهاب إلى موسكو والحرص على إداء الصلاة منقولة تلفزيونياً من قصور «الكرملين» الجميلة وحقيقة أنَّ هذا هو ما نريده الآن فـ»لعبة الأمم» تقتضي أن تكون الدول والشعوب الصغيرة مع مصالحها وأن «تبتز» الدول الكبرى للحصول على ما تريده وكي لا يقف الأميركيون ومعهم الغرب الأوروبي هذه المواقف المخزية في سوريا وفي غيرها.