ليس أمراً دون مغزى أو دلالة سياسية بالغة، أن يختفي عن الظهور مع مرور الوقت، قادة من «حماس» كانوا يملؤون الدنيا صراخاً، يرفعون عقيرتهم بخطاب سياسي ناري، تحريضي ضد السلطة الفلسطينية، ودعائي ضد إسرائيل، فقد مرت شهور، وحتى بضع سنوات، على عدم ظهور محمود الزهار، سامي أبو زهري، مشير المصري، يحيى العبادسة، صلاح البردويل، حتى بات يخيل للمرء، كما لو كانوا «قادة سابقين»، لذا فإن السؤال الذي لا يحمل أبداً ولا بأي شكل من الأشكال أي نسبة حتى لو كانت واحداً بالمائة من الحنين لهؤلاء، ولا لخطابهم الذي كان دائماً توتيرياً على الصعيد الداخلي، ودعوياً متبجحاً على الصعيد الخارجي، لكن السؤال ربما يهدف إلى محاولة قراءة ما حدث من تغير، نرى أنه جدي على سياسة «حماس» بعد اثني عشر عاماً أمضتها في الحكم والسلطة، عما كانت عليه قبل ذلك.
وليس من قبيل الصدفة أن نلاحظ بأن «اختفاء هؤلاء» ونزولهم من على خشبة المسرح السياسي لحماس، قد ترافق مع إطلاق مسيرات العودة، التي كان قد حدد لها إسماعيل هنية وهو رئيس للمكتب السياسي، برنامجاً سياسياً معتدلاً جداً، استند على المقاومة السلمية، أو أن عصر هذا الجناح المتشدد من «حماس» قد أفل مع خروج الثنائي خالد مشعل/موسى أبو مرزوق من سدة القيادة، وتولي الثنائي الواقعي/المعتدل، إسماعيل هنية/ يحيى السنوار الموقع القيادي في الحركة، وقد ترافق ذلك مع أفول شمس الأخوان في الشرق الأوسط وتراجع نفوذ حليفيهما التركي والقطري في المنطقة لصالح مثلث الاعتدال العربي: السعودية /مصر/الإمارات.
كذلك لابد لنا أن نتساءل، عن مغزى أن يتوافق «وقف» حماس غير المعلن لمسيرات العودة، للأسبوع الثالث على التوالي، مع إحجامها عن المشاركة في التصدي للعدوان الإسرائيلي الذي استمر مدة 48 ساعة بعد اغتيال بهاء أبو العطا شهيد الجهاد الإسلامي وقائد سرايا القدس، حيث لا تقنع الحجة التي تقول بها «حماس» أحداً من أنها تفوت الفرصة على نتنياهو الذي يمر في ضائقة داخلية، حتى لا يرتكب حماقة شن حرب على غزة، ذلك أن قرار شن الحرب على غزة بيده هو لا بيدها، ولو كان ذلك صحيحا، أي أن شن حرب على غزة يبقي عليه في الحكم لشنها فورا، وفي الحقيقة فإن قرار الحرب في إسرائيل لا يتخذ بناء على رغبة نتنياهو أو بينيت، بل هو قرار يعود للجيش وللأجهزة الأمنية بالدرجة الأولى.
في ذات الوقت، فإن «حماس» باتت تصغي جيدا للفصائل مجتمعة في غزة، أي ليس فقط للجهاد وحسب، بل للشعبية والديمقراطية أيضا، وهي ربما تكون قد توافقت مع «الجهاد» على صيغة تشبه صيغة حزب الله مع الدولة في لبنان، وهو المتعفف في السلطة، تترك له شأن مقارعة الاحتلال، وتتفرغ هي للسلطة، لذا أبدت مرونة واضحة في ملف الانتخابات وهي تعلم بأن تعطيلها سيكون على يد إسرائيل ولا داعي لأن تقوم هي بالعمل «القذر».
ويبدو أنه ليس المستوى السياسي في «حماس» فقط هو الذي تغير، بل جناحها العسكري أيضا، الذي تحول مع الوقت إلى قوات جيش وشرطة، خاصة مع توزيع الرتب العسكرية والمزايا والوظائف وبعد مضي اثني عشر عاما من الجلوس على مقاعد الحكم والسلطة، كذلك يبدو بأن «حماس» باتت على يقين من أن التحول داخل إسرائيل قد صار جديا، وأن مرحلة نتنياهو وحكم اليمين الذي رافق حكمها لغزة طوال عقد من السنين قاربت على النهاية، حيث كانت حكومات نتنياهو خلالها تقوم من خلال الجولات العسكرية بتقليم أظافر المقاومة، ولا تسقط حكمها، واليوم باتت تقوم بتقليم أظافر «الجهاد» وتبقي على حكم «حماس» فيما الانقلاب في الحكم بإسرائيل، قد يرى بأن وظيفة «حماس» في الانقسام قد استنفدت، تماما كما قام نتنياهو بدوره في إجهاض تفاعلات أوسلو ومنع السلطة من التحول إلى الدولة.
تعتقد «حماس» بأن الحكم إذا ما تغير، في إسرائيل، وهذا أمر مرجح، فإن الحكومة القادمة، قد تعطي الضوء الأخضر لإنهاء الانقسام، وحيث أن ذلك يترافق مع رفع يد قطر بعد تصريحات محمد العمادي، بأن بلاده لن تقوم بتقديم الدعم المالي لغزة مع بداية العام، بل وهناك معلومات تشير إلى أن قطر بصدد التضحية بحماس مقابل إنهاء دول الخليج ومصر مقاطعتها لقطر، وحيث أنه صعب جدا على «حماس» أن تلقي بنفسها في أحضان إيران، خاصة مع إغلاق أبواب سورية في وجهها، فإنها باتت ترى أن الطريق الوحيد لها، بات هو البيت الوطني، مع المراهنة على وراثة «فتح» في السلطة، عبر صناديق الاقتراع، وهي حاليا تقيم إطارا سياسيا جامعا، وإن كان ما زال في المهد لفصائل غزة، التي لديها أذرع عسكرية.
ولا نغفل هنا، الدور الذي تلعبه مصر بطول صبرها، من وراء الكواليس، بحيث باتت حماس أكثر وداعة، واقتربت كثيرا من صورة الحزب السياسي، أو الفصيل السياسي المؤهل للحكم، خاصة وأن غزة محررة من الاحتلال ولا تعاني سوى من الحصار، الذي عادة ما يفرض على الدول، وليس على المناطق المحتلة، صورة تبدو غير واضحة بعد، لكن أسابيع قادمة، أو أشهرا قليلة كفيلة بتوضيح الصورة تماما، وخير دليل على ما نقوله، وان كان يبدو صادما، هو أن خطاب «حماس» السياسي بات أقل تشددا، تجاه إسرائيل بالخصوص، وأقل انسجاما مع خطاب المقاومة من كثير من الفصائل الموجودة في قطاع غزة، وهنا لا نقصد «الجهاد» فقط.
لا شك أيضا أن «حماس» قد تأثرت وهي الوحيدة_تقريبا_ من بين تنظيمات الأخوان المسلمين التي بقيت في الحكم، منذ أثني عشر عاماً، بما حصل لتلك التنظيمات، وقد استوعبت الدرس كذلك من مصير الكثير من جماعات وتنظيمات الإسلام السياسي التي ملأت الدنيا قبل أعوام ثم سرعان ما انطفأت، بحيث تأكد لـ «حماس» بأن هذا المسار الخارج عن معادلات الإقليم السياسية، وحتى عن معادلات السياسة الدولية مآله الفشل مهما انتشر وذاع صيته، لذا فإنها قد هدأت واستكانت، وباتت تفكر جيدا في التأقلم مع كل الأطراف الداخلية والخارجية على ما فيها، أو على ما بينها من تناقضات واختلافات، ولعل أول بوادر ذلك هو ما تبديه من حرص على»التوافق» مع فصائل غزة مجتمعة، ومع مصر بالخصوص، لعل وعسى تكون الانتخابات، إذا ما جرت، مدخلا لخروجها من دائرة «المقاومة» للدائرة السياسية، تماما كما فعلت سابقتها حين خرجت من دائرة الكفاح المسلح، وهكذا تنافس «فتح «على المقعد السياسي، وهكذا تظفر بإحدى الحسنيين، إما السلطة كلها، أو الشراكة فيها والتنافس عليها فيما بعد.