طغى الاهتمام بالمشفى الأميركي على كل شيء آخر، بين معارض لإقامته كونه سيستخدم قاعدة للأمن الأميركي والإسرائيلي، وسيقام من وراء السلطة الفلسطينية المعترف بها، بما يعزز الانقسام ويمضي نحو مزيد من فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية وتحويله إلى انفصال، ويمهد الطريق للاتفاق على صفقة جديدة لتبادل الأسرى، وعلى هدنة طويلة الأمد تقوم على معادلة "هدوء مقابل هدوء"، إلى جانب مشاريع اقتصادية وصناعية متنوعة على الحدود بين قطاع غزة وأراضي 48، وميناء بحري، وزيادة عدد العمال الغزيين في إسرائيل، فضلًا عن أن هذا المشفى يعبد الطريق أمام "صفقة ترامب".
ويبرهن أصحاب هذا الرأي على ادعائهم بأن المشفى سيقام في الوقت الذي تقطع فيه إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المساعدات عن السلطة الفلسطينية، حتى عن مشافي القدس، وتسعى جاهدة لتصفية القضية الفلسطينية بمختلف أبعادها.
وبين مؤيد لإقامته باعتباره عملًا إنسانيًا من دون أبعاد سياسية، وشكلًا من أشكال كسر الحصار عن قطاع غزة فرضته المقاومة ومسيرات العودة. ويعزز أصحاب هذا الرأي موقفهم بالإجراءات العقابية الظالمة التي فرضتها السلطة على القطاع، وجعلته بحاجة إلى أي مساعدة من أي جهة كانت.
تقف الحقيقة ما بين الرأيين. فلا يمكن قطع المساعدات الأميركية عن السلطة التي لا تزال تلتزم بالالتزامات السياسية والاقتصادية والأمنية المترتبة على اتفاق أوسلو، ما عدا المساعدات الأمنية، وتقديم المساعدات "الإنسانية" للسلطة التي ترفع لواء المقاومة وترفض الاعتراف بإسرائيل، في ظل اختلال ميزان القوى لصالح الاحتلال رغم تزايد قوة المقاومة، من دون أن يكون لهذا الأمر أية أبعاد سياسية.
يكفي لتفنيد هذا الادعاء التذكير بما سبق وأعلنه أريئيل شارون لتبرير خطته لإعادة الانتشار في قطاع غزة بأنها تهدف إلى بث الفوضى والاقتتال في القطاع، وإرسال رسالة من الفلسطينيين إلى العالم بأنهم غير جديرين بإقامة دولة فلسطينية، وكذلك من أجل تمكين إسرائيل من الاستفراد بـ"يهودا والسامرة" (أي بالضفة)، وبما قاله بنيامين نتنياهو - مرارًا وتكرارًا - بأنه حريص على إدامة الانقسام بين الضفة والقطاع.
ولا يقلل من خطورة التساوق بقصد أو من دونه، مع استمرار الانقسام وتعميقه، الاتكاء على أن من يوجه الاتهام إلى حركة حماس حول المشفى الأميركي والهدنة الطويلة الأمد منغمس بالتنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية، فكونه كذلك لا يبرر ولا يعطي الشرعية للآخرين بأن يسيروا على ذات الطريق.
وما يدفع إلى هذا القول ما قرأناه بهذا الصدد من كتاب محسوبين على "حماس" بتحليل الانفتاح على أميركا و"العالم" في معرض دفاعهم عن إقامة المشفى الأميركي، متجاهلين بأن أميركا في عهد ترامب لا تبحث عن فلسطينيين مقاومين وأكثر وطنية وصلابة من السلطة حتى تعترف بهم وتقدم المساعدات لهم، بل عن فلسطينيين أكثر استعدادًا للتساوق مع الخطة الأميركية الإسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية، حتى لو تصوروا أنهم أشد المدافعين عنها وأكثر المعادين لخطة ترامب. فليس المهم ما يعتقد المرء عن نفسه، وماذا يقول، بل ما يمثل في الواقع، وما تقود أفعاله إليه ولو بحسن نية، فقد قيل سابقًا وبحق "إن جهنم مبلطة بذوي النوايا الحسنة".
وإذا أردنا أن نفسر ما يجري نقول إن "حماس" تعطي الأولوية لاستمرار سيطرتها على قطاع غزة على كل ما عداه، لا سيما أن هناك أوساطًا فيها تتوهم بأن قطاع غزة بات محررًا، أو على وشك أن يصبح كذلك (وهذا غير صحيح، فالقطاع رغم حرية الحركة داخله لا يزال أكبر وأطول سجن في التاريخ)، وأنه يمكن أن تقام فيه الدولة الفلسطينية الموعودة كخطوة على طريق مدها إلى الضفة ثم إلى بقية فلسطين، متجاهلًا أن الذي قبر الدولة الفلسطينية في الضفة لن يساعد على قيامها في قطاع غزة، خصوصًا إذا جاءت تجسيدًا للهوية الوطنية الفلسطينية، وكخطوة مرحلية على طريق تحرير فلسطين، وفي سياق تحقيق جزئي لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
المطروح إسرائيليًا قيام كيان في غزة لا يملك من مقومات الدول شيئًا، وقيامه ثمن للتخلي عن القضية الفلسطينية، وبشكل خاص التخلي عن الضفة التي يراد استكمال تهويدها وضم معظمها، على طريق ضمها كليًا وإقامة "إسرائيل الكبرى" بدلًا منها. وهذا المصير لا تتحمل مسؤوليته "حماس" وحدها، بل تتحمل القيادة الفلسطينية المسؤولية الأولى عنه.
ما يعزز ما ذهبنا إليه ذلك النقاش الحادّ داخل جيش الاحتلال وأجهزة الأمن والأحزاب الإسرائيلية، بما فيها الليكود وحزب "أزرق أبيض"، بين آراء عدة تتراوح بين استخدام العصا والجزرة مع "حماس" وعقد هدنة طويلة معها تفقدها مبرر وجودها كحركة مقاومة، على طريق ترويضها كليًا بحيث تنتفي الحاجة إلى السلاح والصواريخ والأنفاق؛ وبين من يريد توجيه ضربة قوية لها أولًا وعقد الهدنة الطويلة معها بعد ذلك عندما تكون ضعيفة وقابلة للاستجابة للشروط الإسرائيلية؛ وبين من لا يريد عقد هدنة معها، بل محاربتها إلى حين إسقاط سلطتها وعودة "سلطة أوسلو" إلى القطاع أو من دون عودتها.
لعل إدراك "حماس" النسبي بالمخاطر السالفة يقودها إلى عدم الثقة كثيرًا بوعود نتنياهو حول الهدنة طويلة الأمد، خصوصًا أن الشكوك حول تنفيذ هذه الوعود كبيرة في ظل عجزه مرتين عن تشكيل الحكومة بعد الانتخابات في نيسان وأيلول الماضيين، فهي ليست مضمونة حتى لو أراد الالتزام بها، لأن مصيره مجهول، لا سيما بعد توجيه الاتهامات له، ما يجعل مصيره السياسي في أحسن الحالات غير مضمون؛ لذلك وافقت "حماس" على شروط الرئيس محمود عباس لإجراء الانتخابات كونها تراهن على أنه إما لا يريد إجراءها، أو إذا جرت ستشرعن سلطتها وتحتمي بمظلة السلطة، وخصوصًا أن معارضي نتنياهو إذا وصلوا إلى الحكم سيتخذون موقفًا أكثر عدوانية وتشددًا من "حماس"، عنوانه استعادة الردع الإسرائيلي الذي بدده نتنياهو كما قال بيني غانتس.
بمقدور "حماس" أن تختار طريق النجاة، من خلال الإعلان والبرهنة على أنها مستعدة للتخلي عن سيطرتها على السلطة في قطاع غزة، ولجعل جناحها المقاوم جزءًا من جيش وطني موحد يخضع لإستراتيجية وطنية وقيادة واحدة، وأن أي هدنة أو أي مسألة مصيرية يجب التوصل إليها بشكل وطني جماعي، شريطة أن تكون هناك شراكة سياسية حقيقية بين مختلف أطياف الحركة الفلسطينية ومكونات النظام السياسي، على أساس بلورة إستراتيجية سياسية قادرة على مواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية وتوظيف الفرص المتاحة.
إذا لم تُقْدِم "حماس على ذلك عاجلًا وليس آجلا، فلا تستطيع أن تتبرأ تمامًا مما يقال عنها وفيها بأنها فصيل غزّي أكثر ما هو فلسطيني، ويخضع لأجندات إخوانية وخارجية.
وبمقدور الرئيس وحركة فتح بدلًا من معايرة "حماس" أنها تسير على ذات الطريق الذي ساروا فيه إنهاء التفرد والهيمنة على السلطة والمنظمة، والتخلص من الالتزامات السياسية والاقتصادية والأمنية المجحفة، واعتماد مسار جديد يراهن على الشعب لا على الآخرين، وخصوصًا على التغيرات في إسرائيل والولايات المتحدة، ويبني على المكاسب المتحققة طوال التجربة السابقة وعلى نقاط القوة، ويتخلص من نقاط الضعف والقصور والأخطاء والخطايا.
السؤال الملح: من يعلق الجرس؟ فكل طرف يتذرع بأن الطرف الآخر هو الذي يعطّل إمكانية إنجاز الوحدة المبنية على أساس سياسي وشراكة حقيقية، لذلك لا يقوم بما يتوجب عليه القيام به. لذا، المطلوب من كل طرف إذا كان فعلًا "أم الولد" وصاحب المشروع الوطني أن يبادر إلى فعل ما يتوجب فعله، وتحميل الطرف الآخر المسؤولية عن عدم الاستجابة إذا لم يستجب. والشعب سيلعن المعطّل، وسيقف حتمًا إلى جانب من يستجيب لمتطلبات إنجاز مصالحه وحقوقه وتطلعاته الوطنية.
إذا فعل الطرفان ما يجب عليهما فعله من إعطاء الأولوية للمصلحة الوطنية على المصلحة الفئوية، من تلقاء ذاتهما – وهذا بكل أسف مستبعد – أو أجبرهما الشعب على ذلك، يكون الفلسطينيون قد بدؤوا بالسير على طريق الخلاص الوطني، فهل هذا مستحيل؟ لا، فلا يوجد مستحيل عند الشعوب الحية والأصيلة مثل الشعب الفلسطيني.