منذ أن شكل بنيامين نتنياهو حكومته الحالية التي مازال يسير أعمالها للمرة الثانية، انتظاراً لنتائج الانتخابات المعادة للمرة الثالثة، على أمل أن ينجح في الحصول وائتلافه اليميني على أغلبية في الكنيست الإسرائيلي تتجاوز عتبة ألــــ 61 عضواً، تؤهله لتشكيل حكومةٍ جديدةٍ يكون رئيسها المحصن من الملاحقة القضائية، والموعود بحصانةٍ برلمانية أو عفوٍ رئاسي ينقذه من مآزقه، ويحميه من هول ما ينتظره في حال لم ينجح في تشكيل حكومةٍ جديدةٍ برئاسته هو شخصياً، وليس برئاسة أحد من حزبه غيره، ولا ائتلافاً مع أحزابٍ أخرى تقاسمه السلطة، وتتناوب معه في رئاسة الحكومة، أو تفرض عليه شروطاً قاسية أقلها أن يكون ثانياً في رئاستها لا أول فيها، بما يفقده الآمال التي يتطلع إليها والأهداف التي يرجوها من منصبه الأول في الحكومة.
منذ ذلك الحين وحتى اليوم ونتنياهو يتولى إلى جانب رئاسته للحكومة إدارة عددٍ من الوزارات، يحافظ على بعضها ويديرها وزيراً أصيلاً، أو يسلمها لحلفاء أو أصدقاء له رشوةً أو إرضاءً لهم، إلا أن نفوذه فيها يبقى كبيراً ومؤثراً وكأنه لم يغادرها، كذا الحال كان في وزارة الخارجية قبل أن يسلمها إلى صديقه المقرب وحليفه الأقوى في الحزب والكنيست يسرائيل كاتس، الذي يعتبر أحد أكثر المخلصين له وأقرب الوزراء إليه، وقد كان على رأس الحملة الانتخابية لنتنياهو في الانتخابات الداخلية لحزب الليكود الأخيرة، التي كان منافسوه في الحزب وعلى رأسهم جلعاد ساعر يتطلعون إلى طرده وإقصائه.
إلا أن نتنياهو كان قد سلخ من وزارة الخارجية ملف الشتات، وهو الملف الذي كان يديره بنفسه أيضاً، بالتعاون مع بعض الضباط السابقين في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، الذين ساعدوه في استجلاب عدة مئاتٍ من يهود اليمن، إلا أنه سلم الوزارة بكاملها إلى مساعدته السابقة تسيفني حوتفلي، وهي أحد أكثر المعجبين بسياسته اليمينية، وقد أودعها اهتماماته القديمة وأوصاها بسياسته المتعلقة باستيعاب المزيد من المهاجرين اليهود من جميع أنحاء العالم، ووعدها بأن يكون معها ويساعدها في مهمتها، وهي التي أيدته في معركته الانتخابية الداخلية الأخيرة ضد ساعر.
وما زال الأمر نفسه يتكرر في وزارة الزراعة التي ما زال يديرها بنفسه، رغم محاولاته المتكررة تعيين حلفاء له على رأسها، إلا أن محاولاته باءت بالفشل الذريع والمخزي أحياناً، والتي كان آخرها محاولة تسمية عضو الكنيست دافيد بيطون وزيراً لها، إلا أنه فشل في تعيينه بسبب توجيه الشرطة لاتهاماتٍ له، واعتراض العديد من الأحزاب السياسية على ترشيحه لهذا المنصب كونه مشتبهاً فيه، وتدور حوله شبهاتٌ بالفساد، وما زال يخضع حتى الساعة لتحقيقات الشرطة، التي قد توجه إليه لائحة اتهامٍ رسمية وتحيله إلى القضاء، ولعله يواجه نفس المصير الذي ينتظر نتنياهو شخصياً.
وفي معرض محاولاته لملمة بيت اليمين الإسرائيلي وجمع شتات الأحزاب الدينية المشتتة، لتمكينها من مواجهة أفيغودور ليبرمان وتجاوز نسبة الحسم الانتخابية، فقد نقل يفعات شاشا بيطون وهي من حزب كولانو من وزارة البناء والإسكان إلى وزارة الرفاهية، وعين مكانها يتسحاق كوهين من حزب شاس الديني الأرثوذكسي وزيراً للبناء والإسكان، وهو الحزب الذي يلق معارضة شديدة من زعيم حزب إسرائيل بيتنا أفيغودور ليبرمان، الذي يعمل على إقصائه وإضعاف تمثيله في الكنيست، إلا أن نتنياهو يعمل على تقوية أوراقه وتحسين أدائه ليضعف به خصمه ليبرمان، ويقلل من فرص حصوله على المفتاح الذهبي لتشكيل الحكومة الجديدة.
أما وزارة الحرب فقد أهداها إلى خصمه القديم وعدوه اللدود، الذي يكرهه ولا يحبه ويحتقره ولا يحترمه نفتالي بينت، رغم اعتراض زوجته ساره عليه، وهي التي تأذت منه وانزعجت، إلا أن نتنياهو رأى أن يشتري ود البيت اليهودي وزعيمه، ليشد عضد اليمين الديني ويؤهله للمنافسة القادمة، ويجبره على تحالفاتٍ مضمونة، إلا أن نتنياهو لم يتركه وحده في الكرياه يدير وزارة الحرب بمفرده، فقد عين آفي ديختر نائباً له في الوزارة، وهو أحد أكبر ضباط المخابرات السابقين، وأحد أهم العقول الأمنية والعسكرية الموالية له، ومنحه صلاحياتٍ واسعةٍ، واعتمد عليه كثيراً في موقعه الوسط بين قيادة الأركان العسكرية ووزارة الحرب السياسية، ليكون هو صاحب الصوت الأعلى والقرار الأصوب والتوصية الأهم.
صحيحٌ أن نتنياهو كان مجبراً على هذه الخطوات، وأن مدعي عام الحكومة الإسرائيلية أفيخاي منديليت قد أجبره على الاستقالة من كل مهامه الوزارية عدا رئاسة الحكومة، التي لا يستطيع إجباره على الاستقالة منها والتخلي عنها، ولو أنه كان يستطيع ذلك لفعلها، إلا أن القانون الإسرائيلي يمنعه، إذ يضمن لرئيس الحكومة منصبه الأول، فما كان منه إلا أن أخطره محذراً إياه بأنه سيدفعه إلى الاستقالة القسرية من كل الوزارات التي يديرها في حال رفض الاستقالة الطوعية منها.
إلا أن نتنياهو فيما تبقى له من وقتٍ قصيرٍ إضافي للمرة الثانية، استغل الفرصة وحول المحنة إلى منحة، وفتح خزائنه وشرع أبواب ديوانه، وقام باستغلال الظرف وانتهاز المأزق في شراء الذمم وتحصين تكتله، وإقامة السدود والحواجز بين الأحزاب المؤيدة له والمنافسة له، ونجح في رشوة الكثيرين وإسكات أصوات المعارضين، وإقصاء الخصوم والمنافسين، وإرضاء المغرورين وإشباع غريزة الطامعين، ليضمن نقاء فريقه ووحدة صفه، فأصبح يوزع الوزارات على من لا يحبهم هدايا مسكتة، ونوابها على من لا يستحقونها مكافئاتٍ مجزلةً، مستغلاً القانون ومستفيداً من الصلاحيات، فيما يبدو أنها سكرات الموت أو هستيريا الجنون، أو عطاء ما لا يملك لمن لا يستحق.