بإعلان رجل مصر القوي، المشير عبد الفتاح السيسي استقالته من منصب وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة المصرية، وترشحه لمنصب رئاسة الجمهورية، يكون الرجل قد وضع حداً لحالة من الترقب التي انتابت الشارع المصري والعربي منذ الإطاحة بالرئيس الإخواني السابق محمد مرسي العياط، في تموز من العام الماضي، ويكون بذلك قد وضع حدا لمرحلة انتقالية عاشت خلالها مصر حالة من القلق والاضطراب الأمني والسياسي، لم تبدأ فقط، منذ الإطاحة بنظام الإخوان وحسب، ولكن منذ الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في السابع عشر من شباط من العام 2011.
ونظراً لأن الشعوب العربية، اعتقدت خطأ بأن الطريق الى التغيير، يمكن أن يكون سهلاً، أو سريعاً، خاصة بعد السهولة التي تم فيها إسقاط نظامي حكم كل من زين العابدين بن علي ومحمد حسني مبارك، في كل من تونس ومصر، على التوالي، فإن الكثيرين ظنوا بأن إقامة نظام حكم جديد يتمتع بالشفافية والديموقراطية سرعان ما يتم بمجرد إجراء انتخابات عامة، حيث إن حجم الفساد والتخلف في المجتمعات العربية بعيد المدى والغور، ولا يتوقف عند حدود المستوى السياسي، سرعان ما اكتشفت الملايين بأن إسقاط نظام حكم الفرد لا يكفي لتحقيق العدالة والمساواة، ذلك أن الفساد والاستبداد متلازمان، ويكاد أحدهما يفضي الى الآخر، وأن الطريق للديموقراطية إنما هو شاق وطويل، يحتاج إلى صبر وطول نفس، والأهم الى مثابرة ومواصلة الحراك المجتمعي، ونباهة الشارع، حتى لا تتوقف الثورة في منتصف الطريق، ويتم إجهاض أهدافها لهذا السبب أو ذاك.
احتاجت ثورة 25 يناير في مصر التي أطاحت بنظام حكم الفرد الفاسد الى ثورة تالية هي ثورة 30 يونيو حتى يتم إسقاط حكم الاستبداد، الذي فتح اليه الباب حكم الإخوان المتفرد والمتشدد، وهكذا عاشت مصر فترة انتقالية لمدة 3 سنوات، تولى رأس الحكم فيها ثلاثة أنظمة كانت على التوالي: المجلس العسكري برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي، ثم الرئيس الإخواني المنتخب محمد مرسي العياط، ثم المستشار عدلي منصور.
وبانتظار إجراء الانتخابات الرئاسية في وقت لاحق من هذا العام يأمل المصريون في أن تضع الثورة أوزارها وأن تصل إلى آخر مرافئها، بتحقيق نظام حكم قوي، يمتاز بالشفافية والديموقراطية، وأن يتم انتقال الواقع المصري من مرحلة الفوضى الناجمة عن هدم نظام حكم قديم الى مرحلة البناء، التي تضع مصر على أبواب عصر التقدم بحل مشاكل البطالة والفقر وتحقيق النمو على كافة الأصعدة وفي كل المجالات.
في الحقيقة، فإن استقالة السيسي من موقعه كقائد عسكري، وإن كان يتحول به الى مواطن مدني، من حقه الطبيعي الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية كما يتطلع ملايين المصريين، فإنه لا يعني قطع صلته تماما وبالكامل مع أحد أهم مؤسسات الدولة المصرية، بل المؤسسة الحاكمة منذ أكثر من نصف قرن، ذلك ان الرجل حين يظفر بالمنصب الأول في الدولة، كما هو متوقع، سيعود قائدا أعلى للقوات المسلحة، وبسبب صلاته بالجيش وموقعه السابق فإنه لن يكون كما كان حال الرئيس السابق _ الذي ظن أنه بإقالة المجلس العسكري الأسبق (طنطاوي وسامي عنان) وتعيينه السيسي وزيرا للدفاع قد أحكم قبضته على الجيش، لكنه ظل في الحقيقة، "خيال مآتة" أو قائدا أعلى على الورق _ بل سيكون بمقدوره أن يمارس صلاحياته، كرئيس للجمهورية وكقائد أعلى للجيش، على المؤسسة العسكرية، وبذلك ستظفر مصر بنظام حكم قوي، ومستقر، يحقق الأمن للمواطنين الذين تطلعوا إليه ومنحوه الأولوية بعد ثلاث سنوات من الفوضى وانعدام الأمن في كل مكان من البلاد.
المهم هو وفي ظل تحقق الأمن أن تواصل مصر طريقها الديموقراطي، من خلال إحلال نظام المؤسسات بدلا من الأفراد، وتحقيق الرقابة من خلال الفصل بين السلطات الثلاث: القضائية والتشريعية والتنفيذية، ولعل أهم ما تحقق خلال الفترة الماضية هو إقرار دستور البلاد 2014 الذي حدّ من الصلاحيات المطلقة لرئيس الجمهورية، إن كان من خلال حصر حق الرئيس في الترشح بولايتين، أو من خلال منح البرلمان والحكومة صلاحيات أوسع مما كان عليه الحال في السابق.
ورغم أن السيسي سيتمتع خاصة في الأيام الأولى لرئاسته الجمهورية بشعبية كاسحة، ستمنحه القوة في مواجهة الأحزاب والقوى المجتمعية وحتى مؤسسات الدولة، إلا أنه لن يكون بمقدوره ان يعيد بناء نظام حكم الفرد، نظراً لتطور الوعي السياسي العام، ونظراً لاشتداد عود الأحزاب والقوى السياسية، ونظراً لفاعلية الإعلام وانفتاح العالم على الحدث السياسي، لكنه ربما يعيد صورة فلايديمير بوتين بتجربته في حكم روسيا التي تولاها بعد فترة مضطربة، انتقالية، من حكم الشيوعيين، التي انتهت بخروج ميخائيل غورباتشوف، لفترة انتقالية من الفوضى إبان حكم بوريس يلتسين، واضطراره وهو رجل روسيا القوي إلى احترام الدستور، حين تولى رئاسة الحكومة، في عهد الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف، والمثير أن كلا الرجلين: السيسي وبوتين، جاءا من رحم الاستخبارات، لذا هما يتمتعان بالحنكة والدهاء اللذين جعلا من الرئيس الروسي زعيماً دولياً محنكاً في مواجهة الأميركيين، بما يحقق التطلعات القومية لبلاده، فيما يمكن أن يحقق السيسي الأمر ذاته ليس لمصر وحسب ولكن للعرب جميعاً، الذين سيولونه راية العروبة بعد عام من الآن، حين تعقد القمة العربية القادمة في القاهرة وحتى يعيد مصر إلى دورها العربي والإقليمي الرائد.