نحن نتحدث هنا في موضوعات قابلة للتأويل والتفسير والاختلاف حولها، ولكن المشكلة في العقول وكيف تقرأ الواقع، وقصة العميان السبعة والفيل معروفة ومشهورة، ولكن هناك من يبصر ويرى الفيل كاملاً، وهناك من لا يرى تراكم الأحداث على حقيقتها، حتى لو أصبحت كالجبل وليس كالفيل فقط .
أقول هذه المقدمة بشــــأن الحــــديث من القلب، الذي تحدث به المشير السيسي الى شعب مصــــر العظــيم، يوم الاربعاء 27/ 3/ 2014، الذي استمر لمدة 19 دقيقة فقط. وأنا مع السيسي في أن شعب مصر شعب عظيم، ولكن سيزداد عظمة، عندما يخرج من التخلف والعشوائية التي تغطي مساحات عريضة من الحياة. وقد ركز السيسي على كثير من جوانبها تلك التي تحتاج الى علاج حاسم .
هناك أحاديث لرؤساء كثيرين استمرت ساعة أو ساعتين أو أكثر، ولم يخرج منها المستمعون أو المشاهدون برؤية واضحة، ولا نتائج مثمرة، ولا أمل في المستقبل أو صناعته وتشكيله، أحاديث طويلة تدور في دوائر مغلقة.
الصرخة التي أطلقها السيسي، أقول الصرخة، لأني سمعتها كذلك، صرخة استغاثة لانقاذ سفينة الوطن من الغرق. والغرق هنا يكمن في التحديات، ويكمن في ضعف الارادة، وضعف الهمة عن المواجهة مع استمرار الفساد والظلم .
أهم التحديات التي يمكن أن تغرق سفينة الوطن وجاءت في الحديث المقتضب الشامل للمشير السيسي تشمل، ضعف الاقتصاد، والبطالة التي يعانى منها ملايين الشباب، والمرض الذي يصيب ملايين المصريين ولا يجدون له علاجاً، وفضلا عن كل ذلك، الاعتماد على الاعانات والمساعدات، طبعا، الخارجية، وقد يكون منها ما هو مشروط. ويدخل في هذه التحديات، بعض الممارسات على الساحة السياسية والاعلامية داخليا أو خارجيا، التي جعلت من مصر في بعض الاحيان أرضا مستباحة للبعض، ولذلك فالمهمة كما قال السيسي، مهمة شديدة الصعوبة، ثقيلة التكاليف، وأن الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية وصلت الى الحد الذي يفرض المواجهة الأمينة والشجاعة لهذه التحديات، ولكن بما يدعو الى التفاؤل والأمل، أكثر مما يدعو للأسى واليأس. وهنا يكون من الضروري أثناء مسيرة التصحيح والاصلاح المحافظة على التوازن بين الآمال والطموحات من جهة، والقدرات والامكانات من جهة أخرى .
مما يدعو للتفاؤل والأمل عدة أمور منها، أن السيسي يدرك أنه في مهمة دفاع عن الوطن، حتى بعد أن ترك الزي العسكري، وهذا المفهوم يحفز الجميع أيا كان الموقع الذي يشغلونه الى العمل الجاد، جهادا في سبيل الله، ودفاعا عن الوطن، الذي تعرض للظلم طويلا، وللفساد كثيرا وللتجريف عدة عقود.
أيضا مما يدعو الى الأمل، الامتثال لارادة الجماهير وتأييد الشعب. لم يقـــل السيسي في كلمته أنه يمتثل لارادة كل الشعب، بل كان محددا جدا عندما قال، إنه يمتثل لنداء جماهير واسعة من الشعب، لأنه يعلم أن هناك معارضة بين تلك الجماهير، وبعضهم تحولوا الى أعداء يتمنون له الغلط، كما يقـــــول المثل الشعبي. أكد السيسي في بيانه أن مصر لن تكون ملعباً لأحد، وأن المصريين يستحقون الكرامة. أما الحلول التي طرحها المشير في كلمته فتشمل السعى الجاد في صناعة المستقبل، وتلك الصناعة تستلزم إنجاز برنامج خارطة المستقبل، التي تم من خطواتها خطوة أساسية هي الدستور، الذي حظي بأغلبية ساحقة ودعم واسع من المؤيدين له، ويبقى هنا إكمال الانتخابات الرئاسية ثم الانتخابات البرلمانية .
إن صناعة المستقبل هي أرقى الصناعات، لأن الذي لا ينظر الى المستقبل يعيش أبدا في الماضي السحيق، أو على أحسن الاحوال يكون كالذي ينظر تحت قدميه. وصناعة المستقبل تحتاج أملا عريضا رغم الصعاب.. تحتاج أملا كبيرا في الله تعالى القائل ‘وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالارْضِ’. وهو القائل سبحانه ‘فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه’. وهو القائل ‘ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا’.
يأتي بعد ذلك الأمل في الارادة القوية لتغيير مصر الى الأفضل، لكي تصل الى المكان أو المكانة التي تستحقها بين الأمم المتقدمة، فمن ثم يلزم كما قال السيسي في خطابه بذل أقصى الجهد لتجاوز الصعوبات التي تواجه مصر في المستقبل. كما جاء في الحديث أو البيان أن صناعة المستقبل عمل مشترك، ومن ثم ينبغي أن يكون هناك عقد بين الحاكم والمحكوم، ويكون لأي طرف منهما فسخ هذا العقد إذا فشل الطرف الآخر في الحفاظ عليه وتنفيذه بكل دقة، والوفاء به كاملاً، خصوصا ما جاء في باب الحقوق والحريات والواجبات العامة المنصوص عليها في الدستور وبإجراءات سليمة مع الخصوم قبل غيرهم، وأن التزامات الحاكم في هذا العقد توضح أن الحاكم مسؤول عن دوره وملتزم به أمام الله وأمام شعبه. كما أوضح المشير السيــــسي أن الــــتزامات الشعب في رأيه وفق هذا العقد هي العمل الجاد والجـــهد والصبر، وأن الارادة والرغبة في الانتصار لابد أن تقترن بالعـــمل الجاد، ومن ثم كان هذا الوقت هو وقت الاصطفاف من أجـــل البلد، ومن ثم جاءت دعوة السيســي لشركاء الوطن بأننا جميعا نمضي في قارب واحد، وليست في هذا القارب حسابات شخصية تحتاج تصفية أو صراعات مرحلية تستهلك الجهد والارادة، فالوطن كما قال السيسي لكل أبنائه من دون إقصاء أو استثناء أو تفرقة، وأن أي مصري أو مصرية لم تتم إدانته/ادانتها بالقانون الذي نخضع له جميعا، هو شريك فاعل في المستقبل بغير حدود أو قيود. هل يستثمر الجميع هذه الفرصة استثمارا حسناً؟
من أهم خطوات العلاج الذي طرحه المشير السيسي للتحديات التي تواجه مصر وهى مهام عسيرة، إعادة بناء جهاز الدولة الذي يعاني حاله ترهل تمنعه من النهوض بواجباته، ولعل المشير السيسي هنا يطرح ضرورة الهيكلية لبعض أو كل الادارات أو الوزارات في الدولة، حتى يصبح الوطن وحدة واحدة تتحدث بلغة واحدة. ومن خطوات العلاج كذلك إعادة عجلة الانتاج الى الدوران في كل القطاعات، لانقاذ الوطن من مخاطر حقيقية يمر بها وإعادة علاج الدولة وهيبتها. ولخص المشير كل ذلك في جملة واحدة في خطابه هي أن ‘مهمتنا استعادة مصر وبناؤها’.
إنها مهمة ثقيلة، ولكنها كالمرض الذي اكتشفه الطبيب المعالج، سهل العلاج بعد التشخيص من النطاسي البارع، حتى لو سعى الجميع الى اكتشاف علاج له، ولا أظن أن المرض هنا والخروج من العشوائية والتخلف يحتاج الى اكتشاف علاج جديد، فالتجارب عديدة في شتى أنحاء العالم، وقد نهضت أمم كانت تسير خلفنا فتقدمت علينا كثيرا، وعلينا أن نحسن مهمتين مهمة التعليم ومهمة العمل .
كما يرى السيسي في خطابه المقتضب الشامل، أن الارادة والرغبة في الانتصار لابد أن تقترن بالعمل الجاد ‘وقل إعملوا’، ويرى أن القدرات والمواهب التي يتمتع بها الشعب المصرى منذ 7 آلاف سنة يجب أن تتحالف مع العمل الجاد .
وسيطرح السيسي بإذنه تعالى برنامجه الانتخابي الذي يستند الى رؤية واضحة لقيام دولة عصرية ديمقراطية حديثة، واعدا أن يتم ذلك من دون إسراف في الكلام أو الانفاق أو الممارسات المعهودة، أي البيروقراطية القائمة في ظني .
ثم يوضح خطر الارهاب، الذي يسعى من يقفون وراءه لتدمير مصر وتدمــــير حياتنا وسلامنا وأرضنا، ويعد في خطابه بأنه سيظل يحارب كـــل يوم مـــن أجل مصر خالية من الخوف والارهاب. ليس مصر فقط بل المنطقة بأكملها بإذن الله تعالى.
وهذا طموح كبير يعيد لمصر دورها الاقليمي .ويطوف عاليا في الأمل، الذي هو نتاج العمل الجاد، فيؤكد أن الأمل هو الأمان والاستقرار ، وهو الحلم بان تكون مصر في مقدمة الدول، وتعود لعهدها، قوية وقادرة ومؤثرة، تعلم العالم كما علمته من قبل .
القارئ المنصف، سيكون معى في أن الخطاب قصير ولكنه شامل، وأن الأمل فسيح، وأن الشعب يستحق كما قال السيسي أن يعيش بكرامه وأمن وحرية، وأن يكون لديهم الحق في الحصول على عمل وغذاء وتعليم وعلاج ومسكن.