سيمر وقت، لا أحد يعلم اليوم، إن كان سيطول أم سيقصر، حتى يدرك الإسرائيليون أولا، والأميركيون ثانيا، حجم الكارثة التي أوقعهم بها دونالد ترامب وطاقمه الأرعن، الذي لا يدرك في السياسة - الخارجية خاصة - لما هو أبعد من أنفه، فحيث يكون صنع السياسة أشبه بسمسرة العقارات، أو مجرد ترتيبات لا تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات العامة، ولا ما هو بعيد الأمد، أي حين تنظر فقط، إلى ما هو راهن، خاصة حين يتعلق الأمر بحل صراع تاريخي من مثل الصراع العربي الفلسطيني/الإسرائيلي، فإن النتيجة المباشرة قد ترضي غرور متخذ القرار الأرعن، لكن على المدى الأبعد قليلا، فإن العواقب تكون عادة وخيمة، وتقع على رؤوس المقيمين هنا، ذلك أن ترامب وحتى نتنياهو إنما هما راحلان، لكن مواطني «دولة إسرائيل» باقون، وحين ينثر ترامب وطاقمه بذور الشر قبل أن ينصرفوا، فإن حصاد الشر يقع على عاتق هؤلاء الإسرائيليين وبالطبع على الفلسطينيين أيضا.
أولاً لا بد من الإشارة إلى أن العالم منذ ثلاثة عقود بالتمام والكمال، أي منذ انتهاء الحرب الباردة، وتمركز النظام العالمي على قطب وحيد هو الولايات المتحدة، وهو عالم ظالم، يوما إثر يوم تزداد الفجوة فيه بين الأثرياء والفقراء، لدرجة باتت معها حفنة من الأفراد وليس الدول فقط، تمتلك نصف ثروة البشرية جمعاء، كذلك يمكن القول إن كل ما تحقق من استقلال نسبي ومن حريات للشعوب خلال ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، قد تلاشى بفعل إعادة الهيمنة الإمبريالية الأميركية، لذلك وعلى عكس ما ادعته الولايات المتحدة من حقوق إنسان وحريات شعوب قد تبين أنه محض افتراء وجملة من الأكاذيب، وخير دليل على ذلك ما حدث لأوروبا الشرقية ومن ثم لفوضاها في الشرق الأوسط.
وفي ظل الزعامة الأميركية الوحيدة للعالم، لم يتحرر شعب واحد، كان يطالب بالاستقلال، ولا حتى صديقها الكردي، ولا الكتالوني، ولا أي شعب يسعى إلى استقلال لم يحققه إبان الحرب الباردة، كما هو حال الشعب الفلسطيني أيضا.
لكن بالمقابل فإن ترك شأن الزعامة السياسية الدولية لواشنطن منح العديد من الدول التفوق والتقدم في مجالات أخرى وبالتحديد في مجال الاقتصاد، وعلى حذو ألمانيا واليابان حذو الصين، لكن إضافة إلى قوتها الاقتصادية الحالية، احتفظت بقوتها العسكرية، وبقيت كوريا الشمالية تمثل تحديا عسكريا لواشنطن وحلفائها في الشرق الأقصى، ثم إن روسيا تعافت بسرعة من آثار سباق التسلح، وبالتدريج عادت لتشكل منافسا سياسيا لواشنطن خاصة في الشرق الأوسط، فيما ظلّ كثير من الدول تمثل حالات تمرد على الإرادة الأميركية، نقصد بذلك فنزويلا وإيران.
لا يمكن لمتابع أن يتجاهل كيف تم انتخاب دونالد ترامب في سباق الرئاسة الأميركية في العام 2016، وهو شخصية مثيرة للجدل، يفتقد للاتزان ومهووس بالظهور الإعلامي، وأن يدرك أن انتخابه وبقاءه رئيسا للولايات المتحدة، يضر كثيرا بمستقبل المكانة الأميركية في العالم، وهذا ما حدث خلال ثلاث سنوات مضت على دخوله البيت الأبيض، فهو تشدق كثيرا بالكلام الناري، لكنه كان عند الفعل أشبه بفأر، فبعد أن شد الحبل على آخره مع كوريا، انكفأ وتراجع بعد أن رأى العين الحمراء من الزعيم الكوري الشمالي، وبعد أن تورط في محاولة انقلاب ضد النظام الفنزويلي، عاد إلى مخبئه، وبعد أن نفخ في «جراب الحرب» مع إيران، ووجد صمودا وتحديا، عاد أدراجه، كما لو كان يؤدي دورا هزيلا على خشبة المسرح.
يكاد يكون ترامب ممثلا لدور الرئيس الأميركي أكثر مما هو رئيس فعلا، ويؤدي دور الممثل الهزلي حتى، وهو يذكر بشكل ما بشخصية «دون كيشوت» للكاتب الإسباني العظيم ميغيل دي سرفانتيس، من حيث هو يحارب طواحين الهواء، وهو يحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فترامب لا يدرك بعد أن عصر الإمبريالية العالمية قد ولى، وأن عصر قهر الشعوب واحتلالها قد انتهى، لكنه وحيث هو يفعل ذلك بإعلانه ما يسميه «صفقة العصر»، بعد أن تردد مدة عام كامل عن الإعلان، فإن الإعلان عن الإعلان والذي جاء مفاجئا، حيث لم يكن أحد يتوقع أن يحدث ذلك قبل الانتخابات الإسرائيلية مطلع آذار القادم، ولا حتى بعض الإسرائيليين، فمن الواضح أن «اضطرار» طاقم الصفقة إلى سرعة الإعلان يعني ما يأتي: أولا محاولة التخلص من عبء الصفقة نفسه، والإبقاء على أنفسهم، خاصة جاريد كوشنير، وعلى وظائفهم، حتى لا يتم الاستغناء عنهم أو إقالتهم بعد أن تفرغوا لإعداد الصفقة نحو ثلاث سنوات.
ثانيا، محاولة إنقاذ نتنياهو في مواجهة صناديق الاقتراع، حيث تعود ترامب في المناسبتين السابقتين على تقديم الهدايا له.
ثالثا - محاولة إنقاذ كليهما - نقصد ترامب ونتنياهو من إجراءات المساءلة الداخلية، التي وصلت بالأول إلى درجة العزل، والثاني توجيه الاتهام القضائي.
أما لماذا لم ينتظر البيت الأبيض حتى مطلع آذار القادم، كما طالب نصف الإسرائيليين، أي خصوم اليمين الإسرائيلي، من الوسط واليسار، فذلك حتى يضمن ترامب وهو يضع حد السكين على رقبة المتنافسين قبل إجراء الاقتراع، بصرف النظر عن نتيجته، موافقتهما على الصفقة، ذلك أن رفض الإسرائيليين أو عدم إجماعهم على الموافقة عليها، مع الرفض الفلسطيني، إنما يعني أنه سيكون ملزما بأن يضع ذيله بين رجليه ومن ثم أن يغلق عليه بابه!
المهم وقد حدثت واقعة الإعلان، هو الرد الفلسطيني، الذي لن يكون بأي حال على طريقة دون كيشوت، فإعلان ترامب يعني إعلاناً باغتيال السلام الذي لاح في الأفق قبل ربع قرن، وهذا ما أكده الدكتور صائب عريقات، حين قال إن السلطة سترد بإعلان وقف العمل بأوسلو، ولا شك بأن صخبا سيحدث في الشارع، لكنّ فصلاً من الصراع سيكون قد بدا أشد عنفا من سابقه، خاصة أن الإعلان يعني الإفصاح عن سياسة العدو، الذي لم يقبل بالحل الوسط، أو بالاتفاق بين الطرفين، وحيث إنه أعلن عن أربع سنوات ما بين الإعلان والتنفيذ النهائي، فإن ذلك يعني أن ما بين الإعلان والتنفيذ سيحسم الصراع القادم، ما سيكون على الأرض فعلا، ولا ننسى أن القرارات الإسرائيلية من قبل، وكذلك إعلان ترامب بشأن القدس والجولان، لم تغير من واقع الحال شيئا، فكل الصراعات الدولية لم تحل بقرارات أو إعلانات من جانب واحد، بل تحدد مصيرها بما قام به الطرف الآخر أيضاً.