هل يمكن أخذ خطة ترامب على محمل الجدية السياسية؟ أو بمعنى آخر هل يمكن نقاش الأمر في إطار السياسة أم في إطار استعراض القوة؟ فقد بات من الواضح أن ما قدمه الرئيس الأميركي ليس سوى أفكار نتنياهو التي قالها في خطاباته السابقة، تمت صياغتها وتجميعها وأعطى للأميركي دور الإخراج في مسرحية لم تثر اهتمام أحد في العالم سوى نتنياهو وترامب، هذا كل شيء، وليست الخطة سوى دعم كل وغطاء لما يفعله نتنياهو في الضفة الغربية.
ترامب وفريقه مستجدون على السياسة، والكارثة أنهم يمتلكون القوة. هنا مأساة التاريخ التي تتجسد أحياناً على شكل مهزلة، فهو يقدم صفقة تقوم على استبعاد القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود، ويقول: تفاوضوا بعدها، هكذا يحدث مع مستجدي السياسة. وللفلسطيني تجربة مريرة مع المستجدين، والآن يكتمل المشهد الساخر وبكل الظروف وردود الفعل الدولية وأقواها التي صدرت عن الحزب الديمقراطي الأميركي ربما تشير للعبة العبثية التي يمارسها ترامب وصهره.
ولكن بكل الظروف، الأمر ليس سهلاً، نحن أمام دولة في إسرائيل تمتلك من القوة ما يكفي لتنفيذ كل ما ورد في المشروع، وأمام دولة عظمى هي الولايات المتحدة تملك من القوة والنفوذ ما يمكنها من إرغام دول عربية على الموافقة وتحييد قوى دولية، اذاً الأمر في غاية الخطورة، لندرك أن إسرائيل ستمضي في تنفيذ السيطرة على الضفة وإنهاء حلم الفلسطينيين بدولة الى جانبها، لأن ما هو معروض حسب كاتب إسرائيلي هو مثل قطعة الجبنة السويسرية، أعطي فيها الفلسطينيون كل الفراغات، هكذا تبدو الخارطة التي عرضها ترامب.
خارطة ترامب لن تؤدي الى إنهاء الصراع كما يأمل نتنياهو حالماً ببعض الضغط العربي على الفلسطينيين لإرغامهم على قبولها، متزامناً هذا الضغط مع غضب أميركي وجرافة إسرائيلية على الأرض حتى يقبل الفلسطينيون، لكن تلك حسبة واهمة، ليس لأن الفلسطيني مميز، بل لأن الخطة لم تقدم له الحد الأدنى من الرشوة السياسية حتى ليناقش المسألة. ومن الجيد أنها كانت كذلك وإلا لأحدثت شرخاً في الموقف الفلسطيني واستدعت مزيداً من الضغط عليه.
اذاً تلك وصفة لإدامة الصراع المستمر والذي جرت في ربع القرن الأخير كل محاولات تسويته، وكان المخرج الذي حاوله الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي يتمثل بحل الدولتين الذي نشهد دفنه حالياً دون أن نشك أن إمكانية تحقيقه باتت واردة رغم كل حديث بعض الدول الأوروبية والأمم المتحدة، لكن حقيقة القوة هي التي صنعت التاريخ وليس المواقف والمؤسسات، فقد جرف هتلر عصبة الأمم برمشة عين.
منذ إعلان الصفقة والفلسطينيون لم يتوقفوا عن الشجب والإدانة والرفض، ولكن تلك في حسابات السياسة لا تساوي الكثير، فهذا ليس أكثر لعناً للظلام بينما يحل السواد دون انتظار المعارضة الصوتية له، وسط حالة الانفعال الوطني العاطفي، وهذا مطلوب ولكن عليناً البحث عن مخارج وطنية، لأن هناك خشية من انتهاء اللحظة العاطفية كما حدث للقدس، وينتهي كل شيء، لهذا فإن دور الفكر السياسي الآن هو الأكثر ضرورة في ظل حالة الاختناق.
لا حل دولتين، هذا أصبح واضحاً، ولا حل دولة واحدة. فالدولة التي تبحث عن تسميتها كدولة يهودية هي عمليا ترفع هذا الشعار لتقطع الطريق على حل الدولة الواحدة، ودولة بهذا الفكر ستستعمل كل قوتها لمنعه، لأن في فكرة الدولة الواحدة ما ينهي حلم الدولة اليهودية وهذا بات مستحيلاً، هو ليس أكثر من شعار يمكن رفعه كشعار اعتراضي أمام العالم لكشف إسرائيل التي لا تقبل التعايش مع الآخر.
لكن يمكن البحث في الحلول الأخرى وإحداها فكرة الدولة ثنائية القومية، وهي فكرة كان قدمها البروفيسوران أسعد غانم ونديم روحانا في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي في دراسة بالغة الأهمية في ذروة السلام والحديث المتفائل عن حل الدولتين. كان الكاتبان يريان استحالة تحقيقه وباحثين عن حلول ممكنة جاءت في دراسة بعنوان «الحل الممكن في فلسطين دولة ثنائية القومية» وهو مقترح ينبغي إخراجه وإعادة نقاشه.
تنبثق فكرة الدولة ثنائية القومية من استحالة تحقيق حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة، وكذلك استحالة الصراع للأبد أو قدرة أحد الأطراف على حسمه، وإخراج الطرف الآخر من الجغرافيا كما يحلم كلاهما، فوجود كل منهما بات حقيقة راسخة، ولأن حل الدولتين لن يرضي مجموعات سكانية وسياسية كبيرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، فكل منهما يعتبره تنازلاً صعب التحقيق «اليمين القومي والديني في إسرائيل يعتبر الضفة الغربية مسرح أحداث التوراة، والقوى السياسية والفلسطينية والدينية المعارضة تعتبر أن فلسطين أرض وقف لا يمكن التفريط بها».
وتقوم فكرة الدولة ثنائية القومية على وجود قوميتين على أرض فلسطين التاريخية، وتكون كل فلسطين للقوميتين ويتشكل بها نظامان سياسيان يمارسان سلطتهما كل على أبناء قوميته على امتداد فلسطين بانتخابات في إطار الجماعة الواحدة، وكل منهما له برلمان وحكومة واقتصاد وتكون مفتوحة بحرية تامة لأي من مواطني القوميتين، ويمكن التنسيق بين القوميتين في قضايا مشتركة لمصلحة الجانبين، وهذا جزء منه قائم بما فيه الأمني والاقتصادي والزراعي في الضفة الآن.
هذا الحل يركز على الأبعاد النفسية والعقد التاريخية، إذ يمكن لليهود اعتبار فلسطين التاريخية لهم ويمكن لهم أن يسموا دولتهم بالدولة اليهودية في فلسطين، وكذلك يحقق الطموحات التاريخية للفلسطينيين في فلسطين، إذ يمكن لكل فلسطيني اعتبار فلسطين التاريخية هي وطنه يتحرك كما يشاء ويسكن أينما يشاء، وكذلك اليهودي يمكن له مثلا أن يسكن بيت لحم بجانب قبة راحيل.
هذا الحل يُرضي غرور المتطرفين من الجانبين، ويعطي لكل طرف ادعاءه بالسيادة على فلسطين من رفح حتى الناقورة، ويعطي أيضاً حتى للمطبعين والمتعلقين بإسرائيل القدرة على تحقيق مصالحهم من تجارة وغيره، ويعطي لكل من الدولتين - القوميتين نظاماً سياسياً كاملاً. وهذا لا يستدعي حل المستوطنات بل فتح إسرائيل للسكن أمام الفلسطينيين. وفي هذا الحل ربما ما يريح النظام السياسي الاسرائيلي من فلسطينيي 48 الذين أصبحوا يشكلون أزمة للنظام السياسي الانتخابي، هكذا يردد نتنياهو.
هل تقبل إسرائيل؟ وهل هذا ممكن؟ ربما أن الزمن تغير، لكن بكل الظروف الأمر يستدعي نقاشاً في أروقة الفكر والسياسة في فلسطين. وللفكر السياسي الفلسطيني أن يبحث عن حل، وهذا حسب الباحثين ممكن، دعونا نفحص الأمر، وإذا كان ممكناً أن نقدمه للعالم وفي تبني ذلك الخيار ما يعيد مطالبة الفلسطينيين بفلسطين التاريخية ويخلصهم تلقائياً من الاتفاقيات السابقة مع إسرائيل.
الأمر يحتاج لبحث، وقد يقول قائل فلتبحث إسرائيل عن حل، وفي هذا ما يعفي الفلسطينيين من المشكلة، فإسرائيل ليست مأزومة لتبحث عن حلول، وإذا بحثت ستقدم نمط صفقة القرن ولا يجب أن يظل الفلسطيني في مربع المتلقي والرفض فقط، وفي كل مرة أكثر انحداراً وخسارة.